قوله تعالى : { في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً* وقالوا مال هذا الرسول } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، { يأكل الطعام } كما نأكل نحن ، { ويمشي في الأسواق } يلتمس المعاش كما نمشي ، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة ، وكانوا يقولون له : لست أنت بملك ولا بملك ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق وتتبذل ، وما قالوه فاسد ، لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ، ومشيه في الأسواق لتواضعه ، وكان ذلك صفة له ، وشيء من ذلك لا ينافي النبوة . { لولا أنزل إليه ملك } فيصدقه ، { فيكون معه نذيراً } داعياً .
{ 7 - 14 ْ } { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ْ }
هذا من مقالة المكذبين للرسول الذين قدحوا بها في رسالته ، وهو أنهم اعترضوا بأنه هلا كان ملكا أو مليكا ، أو يساعده ملك فقالوا : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ } أي : ما لهذا الذي ادعى الرسالة ؟ تهكما منهم واستهزاء .
{ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } وهذا من خصائص البشر فهلا كان ملكا لا يأكل الطعام ، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر ، { وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } للبيع والشراء وهذا -بزعمهم- لا يليق بمن يكون رسولا ، مع أن الله قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ }
{ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ } أي : هلا أنزل معه ملك يساعده ويعاونه ، { فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } وبزعمهم أنه غير كاف للرسالة ولا بطوقه وقدرته القيام بها .
يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم ، وإنما تعللوا بقولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } ، يعنون : كما نأكله ، ويحتاج إليه كما نحتاج إليه ، { وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ } أي : يتردد فيها وإليها طلبا للتكسب والتجارة ، { لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } يقولون{[21404]} : هلا أنزل إليه ملك من عند الله ، فيكون له شاهدا على صِدْق ما يدَّعيه ! وهذا كما قال فرعون : { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 53 ] . وكذلك قال هؤلاء على السواء ، تشابهت قلوبهم ؛ ولهذا قال : { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز }
{ وقالوا مال هذا الرسول } ما لهذا الذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم . { يأكل الطعام } كما نأكل . { ويمشي في الأسواق } لطلب المعاش ما نمشي ، والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا ، وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية كما أشار إليه تعالى بقوله { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى إنما إلهكم إله واحد } . { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } لنعلم صدقة بتصديق الملك .
الضمير في قوله { قالوا } لقريش ، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس مشهور ، ذكره ابن إسحاق في السير وغيره ، مضمنة أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا يا محمد إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا ، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا{[8781]} ، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا في باب الاحتجاج عليه فقالوا له ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق وتريد التماس الرزق ، أي إن من كان رسول الله مستغن عن جميع ذلك ، ثم قالوا له سل ربك أن ينزل معك ملكاً ينذر معك أو يلقي إليك كنزاً تنفق منه ، أو يرد لك جبال مكة ذهباً أو تزال الجبال ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه ، وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية وكتبت اللام مفردة من قولهم { ما ل } هذا إما لأن على المصحف قطع لفظه فاتبعه الكاتب ، وإما لأنهم رأوا أن حروف الجر بابها الانفصال نحو «في ومن وعلى وعن » . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يأكل منها » بالياء ، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل منها » بالنون وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف وسليمان بن مهران{[8782]} .
انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام .
والضمير عائد إلى الذين كفروا ، فمدلول الصفة مراعىً كما تقدم .
وقد أوردوا طعنهم في نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص والجملة الحالية التي مضمونها مثارُ الاستفهام .
والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولاً بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها . وتركيب { ما لهذا } ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له ، فاسم الاستفهام مبتدأ و { لهذا } خبر عنه فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله .
فجملة : { يأكل الطعام } جملة حال . وقولهم : { لهذا الرسول } أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ولكنهم بنوا عليه ليتأتى لهم التعجب والمراد منه الإحالة والإبطال .
والإشارة إلى حاضر في الذهن ، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرّف بلام العهد وهو الرسول .
وكنّوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعاً منهم إلى إبطال كونه رسولاً لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس ، وخصّوا أكل الطعام والمشي في الأسواق لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة ، ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } [ الفرقان : 20 ] . ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } . وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة لأنها التي أنبتت حقدهم عليه .
و ( لولا ) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز ، أي لو أنزل إليه ملك لاتبعناه .