قوله تعالى : { يريد الله أن يخفف عنكم } ، يسهل عليكم في أحكام الشرع ، وقد سهل كما قال جل ذكره : { ويضع عنهم إصرهم } [ الأعراف :157 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ) ، { وخلق الإنسان ضعيفاً } ، قال طاووس والكلبي وغيرهما في أمر النساء : لا يصبر عنهن ، وقال ابن كيسان : { خلق الإنسان ضعيفاً } يستميله هواه وشهوته ، وقال الحسن : هو أنه خلق من ماء مهين ، بيانه قوله تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف } [ الروم :54 ] .
{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } أي : بسهولة ما أمركم به و [ ما ] نهاكم عنه ، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم ، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر ، وكتزوج الأمة للحر بتلك الشروط السابقة . وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل ، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه ، ضعف البنية ، وضعف الإرادة ، وضعف العزيمة ، وضعف الإيمان ، وضعف الصبر ، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه ، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته .
{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } أي : في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم ، ولهذا أباح [ نكاح ]{[7158]} الإماء بشروطه ، كما قال مجاهد وغيره : { خُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا } فناسبه{[7159]} التخفيف ؛ لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل [ الأحمسي ]{[7160]} حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : { خُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا } أي : في أمر النساء ، وقال وكيع : يذهب عقله عندهن .
وقال موسى الكليم عليه الصلاة والسلام{[7161]} لنبينا صلوات الله وسلامه{[7162]} عليه ليلة الإسراء حِينَ مر عليه راجعا من عند سدْرة المنتهى ، فقال له : ماذا فرض عليكم{[7163]} ؟ فقال : " أمرني بخمسين
صلاة في كل يوم وليلة " {[7164]} فقال له : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت الناس{[7165]} قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا ، وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وقلوبا ، فرجع فوضع عشرا ، ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمسًا [ قال الله عز وجل : " هن خمس وهن خمسون ، الحسنة بعشر أمثالها " ]{[7166]} الحديث .
{ يريد الله أن يخفف عنكم } فلذلك شرع لكم الشرعة الحنيفية السمحة السهلة ، ورخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمة . { وخلق الإنسان ضعيفا } لا يصبر عن الشهوات ولا يتحمل مشاق الطاعات . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ثمان آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت هذه الثلاث : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } ، { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ، { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } ، { ومن يعمل سوءا يجز به } ، { وما يفعل الله بعذابكم } .
وقوله تعالى : { يريد الله أن يخفف عنكم } المقصد الظاهر بهذه الآية أنها في تخفيف الله تعالى ترك نكاح الإماء بإباحة ذلك ، وأن إخباره عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء ، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء ، وكذلك قال مجاهد وابن زيد وطاوس ، وقال طاوس : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء .
قال القاضي أبو محمد : ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية في مخرج التفضل ، لأنها تتناول كل ما خفف الله تعالى عن عباده ، وجعله الدين يسراً ، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاماً ، حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب و { الإنسان } رفع على ما لم يسم فاعله ، و { ضعيفاً } حال ، وقرأ ابن عباس ومجاهد «وخَلقَ الإنسان » على بناء الفعل للفاعل و { ضعيفاً } حال أيضاً على هذه القراءة ويصح أن يكون { خلق } بمعنى جعل ، فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين ، فيكون قوله { ضعيفاً } مفعولاً ثانياً .
أعقب الاعتذار الذي تقدّم بقوله : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } [ النساء : 26 ] بالتذكير بأنّ الله لا يزال مراعياً رفقه بهذه الأمّة وإرادته بها اليسر دون العسر ، إشارة إلى أنّ هذا الدين بيّن حفظ المصالح ودرء المفاسد ، في أيسر كيفية وأرفقها ، فربما ألغت الشريعة بعض المفاسد إذا كان في الحمل على تركها مشقّة أو تعطيل مصلحة ، كما ألغت مفاسد نكاح الإماء نظراً للمشقّة على غير ذي الطول . والآيات الدالّة على هذا المعنى بلغت مبلغ القطع كقوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وقوله : { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } [ الأعراف : 157 ] ، وفي الحديث الصحيح : " إنّ هذا الدين يسر ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه " وكذلك كان يأمر أصحابه الذين يرسلهم إلى بثّ الدين ؛ فقال لمعاذ وأبي موسى : « يسِّرّا ولا تُعَسِّرا » وقال : ( إنما بعثتم مبشرين لا منفرين ) . وقال لمعاذ لمّا شكا بعض المصلّين خلفه من تطويله « أفَتَّان أنْتَ » . فكان التيسير من أصول الشريعة الإسلامية ، وعنه تفّرعت الرخص بنوعيها .
وقوله : { وخلق الإنسان ضعيفاً } تذييل وتوجيه للتخفيف ، وإظهار لمزية هذا الدين وأنّه أليق الأديان بالناس في كلّ زمان ومَكان ، ولذلك فما مضى من الأديان كان مراعى فيه حال دون حال ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً } الآية في سورة الأنفال ( 66 ) . وقد فسّر بعضهم الضعف هنا بأنّه الضعف من جهة النساء . قال طاووس ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء وليس مراده حصر معنى الآية فيه ، ولكنّه ممّا رُوعي في الآية لا محالة ، لأنّ من الأحكام المتقدّمة ما هو ترخيص في النكاح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.