البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا} (28)

{ يريد الله أن يخفف عنكم } لم يذكر متعلق التخفيف ، وفي ذلك أقوال : أحدها أن يكون في إباحة نكاح الأمة وغيره من الرخص .

الثاني في تكليف النظر وإزالة الحيرة فيما بين لكم مما يجوز لكم من النكاح وما لا يجوز .

الثالث : في وضع الاصر المكتوب على من قبلنا ، وبمجيء هذه الملة الحنيفية سهلة سمحة .

الرابع : بإيصالكم إلى ثواب ما كلفكم من تحمل التكاليف .

الخامس : أن يخفف عنكم إثم ما ترتكبون من المآثم لجهلكم .

وأعربوا هذه الجملة حالاً من قوله : والله يريد أن يتوب عليكم ، والعامل في الحال يريد ، التقدير : والله يريد أن يتوب عليكم مريداً أن يخفف عنكم ، وهذا الإعراب ضعيف ، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل ، وهي جملة أجنبية من العامل والحال ، فلا ينبغي أن تجوز إلا بسماع من العرب .

ولأنه رفع الفعل الواقع حالاً الاسم الظاهر ، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره ، فصار نظير : زيد يخرج يضرب زيد عمراً .

والذي سمع من ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية ، أو في شيء من نواسخها .

أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك .

وجواز ذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم ، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبراً بالظاهر .

أما جملة الحال أو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب ، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة ، فلا موضع لها من الإعراب .

أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا ، كما جاء { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }

{ وخلق الإنسان ضعيفاً } قال مجاهد وطاووس وابن زيد : الإخبار عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء ، أي لما علمنا ضعفكم عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء .

قال طاووس : ليس يكون الإنسان أضعف منه في أمر النساء .

وقال ابن المسيب : ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من النساء ، فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشق بالأخرى ، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء .

قال الزمخشري : ضعيفاً لا يصبر عن الشهوات ، وعلى مشاق الطاعات .

قال ابن عطية : ثم بعد هذا المقصد أي : تخفيف الله بإباحة الإماء ، يخرج الآية مخرج التفضل ، لأنها تتناول كل ما خفف الله عن عباده وجعله الدين يسراً ، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاماً حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب .

قال الراغب : ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفاً ، إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته ، أو اعتباراً بكثرة حاجاته وافتقار بعضهم إلى بعض ، أو اعتباراً بمبدئه ومنتهاه كما قال تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف } فأما إذا اعتبر بعقله وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه ويبلغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى ، فهو أقوى ما في هذا العالم .

ولهذا قال تعالى : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } وقال الحسن : ضعيفاً لأنه خلق من ماء مهين .

قال الله تعالى : الذي خلقكم من ضعف .

وقرأ ابن عباس ومجاهد : وخلق الإنسان مبنياً للفاعل مسنداً إلى ضمير اسم الله ، وانتصاب ضعيفاً على الحال .

وقيل : انتصب على التمييز .

لأنه يجوز أن يقدر بمن ، وهذا ليس بشيء .

وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، والتقدير : من شيء ضعيف ، أي من طين ، أو من نطفة وعلقة ومضغة .

ولما حذف الموصوف والجار انتصبت الصفة بالفعل نفسه .

قال ابن عطية : ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل ، فيكسبها ذلك قوّة التعدي إلى مفعولين ، فيكون قوله : ضعيفاً مفعولاً ثانياً انتهى .

وهذا هو الذي ذكره من أنّ خلق يتعدى إلى اثنين بجعلها بمعنى جعل ، لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إلى ذلك ، بل الذي ذكر الناس أنّ من أقسام جعل أن يكونن بمعنى خلق ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه ، والمتأخرون الذين تتبعوا هذه الأفعال لم يذكروا ذلك .

/خ28