معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

قوله تعالى : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا } خبراً ، واختلفوا في نبوته : فقال بعضهم : كان نبياً . وقال أبو الطفيل : سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين أكان نبياً أم ملكاً ؟ قال : لم يكن نبياً ولا ملكاً ، ولكن كان عبداً أحب الله وأحبه الله ، ناصح الله فناصحه الله . وروي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لآخر : يا ذا القرنين . فقال : سميتم بأسماء النبيين فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة . والأكثرون على أنه كان ملكاً عادلاً صالحاً . واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين . قال الزهري : لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها . وقيل : لأنه ملك الروم وفارس . وقيل : لأنه دخل النور والظلمة . وقيل لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس . وقيل : لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان . وقيل : لأنه كان له قرنان تواريهما العمامة . وروى أبو الطفيل عن علي أنه قال : سمي ذا القرنين لأنه أمر قومه بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيمن فمات فبعثه الله ، ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات ، فأحياه الله . واختلفوا في اسمه ، قيل : اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح . وقيل اسمه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

{ 83-88 ْ } { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ْ }

كان أهل الكتاب أو المشركون ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة ذي القرنين ، فأمره الله أن يقول : { سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ْ } فيه نبأ مفيد ، وخطاب عجيب .

أي : سأتلوا عليكم من أحواله ، ما يتذكر فيه ، ويكون عبرة ، وأما ما سوى ذلك من أحواله ، فلم يتله عليهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

83

وتبدأ قصة ذي القرنين على النحو التالي :

( ويسألونك عن ذي القرنين . قل : سأتلو عليكم منه ذكرا ) . .

وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة فقال : " حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال " بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . . فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله [ ص ] ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال : فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن . فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول . ما كان من أمرهم ? فإنهم كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها . ما كان نبؤه ? وسلوه عن الروح ما هو ? فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد . قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور . . . فأخبروهم بها . فجاءوا رسول الله [ ص ] فقالوا : يا محمد أخبرنا . . فسألوه عما أمرهم به . فقال لهم رسول الله [ ص ] " أخبركم غدا عما سألتم عنه " - ولم يستثن - فانصرفوا عنه . ومكث رسول الله [ ص ] خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة ؛ وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه . وحتى أحزن رسول الله [ ص ] مكث الوحي عنه ؛ وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم جاءه جبرائيل - عليه السلام - من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل : ( ويسألونك عن الروح . . . )الآية .

هذه رواية . . وقد وردت عن ابن عباس - رضي الله عنه - رواية أخرى في سبب نزول آية الروح خاصة ، ذكرها العوفي . وذلك أن اليهود قالوا للنبي [ ص ] : أخبرنا عن الروح . وكيف تعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله ? ولم يكن نزل عليه شيء . فلم يحر إليهم شيئا . فأتاه جبريل فقال له : ( قل : الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . . إلى آخر الرواية .

ولتعدد الروايات في أسباب النزول ، نؤثر أن نقف في ظل النص القرآني المستيقن . ومن هذا النص نعلم أنه كان هناك سؤال عن ذي القرنين . لا ندري - على وجه التحقيق - من الذي سأله . والمعرفة به لا تزيد شيئا في دلالة القصة . فلنواجه النص بلا زيادة .

إن النص لا يذكر شيئا عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه . وهذه هي السمة المطردة في قصص القرآن . فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود . إنما المقصود هو العبرة المستفادة من القصة . والعبرة تتحقق بدون حاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان .

والتاريخ المدون يعرف ملكا اسمه الاسكندر ذو القرنين . ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن . فالإسكندر الإغريقي كان وثنيا . وهذا الذي يتحدث عنه القرآن مؤمن بالله موحد معتقد بالبعث والآخرة .

ويقول أبو الريحان البيروني في المنجم في كتاب : " الآثار الباقية عن القرون الخالية " إن ذا القرنين المذكور في القرآن كان من حمير مستدلا باسمه . فملوك حمير كانوا يلقبون بذي . كذي نواس وذي يزن . وكان اسمه أبو بكر بن افريقش . وأنه رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط ، فمر بتونس ومراكش وغيرهما ؛ وبنى مدينة إفريقية فسميت القارة كلها باسمه . وسمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس .

وقد يكون هذا القول صحيحا . ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه . ذلك أنه لا يمكن البحث في التاريخ المدون عن ذي القرنين الذي يقص القرآن طرفا من سيرته ، شأنه شأن كثير من القصص الوارد في القرآن كقصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم . فالتاريخ مولود حديث العهد جدا بالقياس إلى عمر البشرية . وقد جرت قبل هذا التاريخ المدون أحداث كثيرة لا يعرف عنها شيئا . فليس هو الذي يستفتي فيها !

ولو قد سلمت التوراة من التحريف والزيادات لكانت مرجعا يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث . ولكن التوراة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير . وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحى به من الله . فلم تعد التوراة مصدرا مستيقنا لما ورد فيها من القصص التاريخي .

وإذن فلم يبق إلا القرآن . الذي حفظ من التحريف والتبديل . هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي .

ومن البديهي أنه لا تجوز محاكمة القرآن الكريم إلى التاريخ لسببين واضحين :

أولهما : أن التاريخ مولود حديث العهد ، فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية ، لم يعلم عنها شيئا . والقرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علم عنها !

وثانيهما : أن التاريخ - وإن وعى بعض هذه الأحداث - هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور والخطأ والتحريف . ونحن نشهد في زماننا هذا - الذي تيسرت فيه أسباب الاتصال ووسائل الفحص - أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى ، وينظر إليه من زوايا مختلفة ، ويفسر تفسيرات متناقضة . ومن مثل هذا الركام يصنع التاريخ ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق !

فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص ، كلام تنكره القواعد العلمية المقررة التي ارتضاها البشر ، قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن هو القول الفصل . وهو كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن ، ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي على السواء . إنما هو مراء ! ! !

لقد سأل سائلون عن ذي القرنين . سألوا الرسول [ ص ] فأوحى إليه الله بما هو وارد هنا من سيرته . وليس أمامنا مصدر آخر غير القرآن في هذه السيرة . فنحن لا نملك التوسع فيها بغير علم . وقد وردت في التفاسير أقوال كثيرة ، ولكنها لا تعتمد على يقين . وينبغي أن نؤخذ بحذر ، لما فيها من إسرائيليات وأساطير .

وقد سجل السياق القرآني لذي القرنين ثلاث رحلات : واحدة إلى المغرب ، وواحدة إلى المشرق ، وواحدة إلى مكان بين السدين . . فلنتابع السياق في هذه الرحلات الثلاث .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

اختلف فيمن سأله عن هذه القصة ، فقيل سألته طائفة من أهل الكتاب ، وروى في ذلك عقبة بن عامر حديثاً ذكره الطبري وقيل إنما سألته قريش ، حين دلتها اليهود على سؤاله عن الروح ، والرجل الطواف ، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك{[7886]} ، و «ذو القرنين » : هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني ، وقد تشدد قافه ، فيقال المقدوني ، وذكر ابن إسحاق في كتاب الطبري أنه يوناني ، وقال وهب بن منبه هو رومي ، وذكر الطبري حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن ذا القرنين شاب من الروم » وهو حديث واهي السند ، فيه عن شيخين من تجيب{[7887]} ، واختلف الناس في وجه تسميته ب { ذي القرنين } ، فأحسن الأقوال أنه كان ذا ضفرتين من شعر هما قرناه ، فسمي بهما ، ذكره المهدوي وغيره ، والضفائر قرون الرأس ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]

فلثمت فاها آخذاً بقرونها . . . شرب النزيف لبرد ماء الحشرج{[7888]}

ومنه حديث في غسل بنت النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت أم عطية : فضفرنا رأسها ثلاثة قرون{[7889]} ، وكثيراً تجيء تسمية النواصي قروناً ، وروي أنه كان في أول ملكه يرى في نومه أنه يتناول الشمس ، ويمسك قرنين لها بيديه ، فقص ذلك ، ففسر أنه سيغلب على ما ذرت عليه ، وسمي «ذا القرنين » ، وقالت فرقة سمي «ذا القرنين » لأنه بلغ المغرب والمشرق ، فكأنه حاز قرني الدنيا ، وقالت فرقة إنه بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرنيها ، فسمي بذلك ، أو قرني الشيطان بها ، وقال وهب بن منبه : سمي بذلك لأن جنبتي رأسه كانتا من نحاس ، وقال وهب بن منبه أيضاً كان له قرنان تحت عمامته .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله بعيد ، وقال علي بن أبي طالب : إنما سمي «ذا القرنين » لأنه ضرب على قرن رأسه فمات : ثم حيي ثم ضرب على قرن رأسه الآخر فمات ، فسمي بذلك لأنه جرح على قرني رأسه جرحين عظيمين في يومين عظيمين من أيام حربه فسمي بذلك ، وهذا قريب .


[7886]:أما الروح فمعروفة، وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي}، وأما الرجل الطواف فهو ذو القرنين، وأما الفتية الذين ذهبوا في الدهر فهم أصحاب الكهف، وفي هذه السورة كانت الإجابة عن الأخيرين.
[7887]:هذا الحديث هو ما أشار إليه المؤلف قبل ذلك حين قال: "وروى في ذلك عقبة ابن عامر حديثا ذكره الطبري". راجع الطبري. وزاد السيوطي في الدر المنثور نسبته إلى ابن عبد الحكم في فتوح مصر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي.
[7888]:لبيت لعمر بن أبي ربيعة ، وهو من أبيات في ديوانه قيل: إنها منسوبة إليه، وآخذا بقرونها: ممسكا بضفائرها، وقد استشهد أبو منصورـ كما قال في اللسان ـ بالنصف الثاني من البيت على أن (النزيف) هو الذي عطش حتى يبست عروقه. وقيل: إن النزيف هو السكران لأن عقله نزف، والحشرج: النقرة في الجبل يجتمع فيها الماء فيصفو. والشاهد هنا أن الضفائر تسمى قرونا.
[7889]:أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي في الجنائز، ولفظه كما جاء في مسلم، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إغسلنها وترا، ثلاثا أو خمسا، واجعلن في الخامسة كافورا، أو شيئا من كافور، فإذا غسلتنها فأعلمنني)، قالت: فأعلمناه فأعطانا حقوة وقال: (أشعرنها إياه). وفي رواية أخرى ذكرها مسلم من طريق هشام بن حسان: وقال في الحديث: قالت: فضفرنا شعرها ثلاث أثلاث، قرنيها وناصيتها. وفي رواية البخاري أن أم عطية قالت: "ومشطناها ثلاثة قرون". والحقو هو الإزار. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أشعرنها إياه): اجعلنه شعارا لها، أي غطين جسدها به.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

افتتاح هذه القصة ب { وَيَسْئَلُونَكَ } يدلّ عل أنها مما نزلت السورة للجواب عنه كما كان الابتداء بقصة أصحاب الكهف اقتضاباً تنبيهاً على مثل ذلك .

وقد ذكرنا عند تفسير قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي } في سورة الإسراء ( 85 ) عن ابن عباس : أن المشركين بمكة سألوا النبي ثلاثة أسئلة بإغراء من أحبار اليهود في يثرب . فقالوا : سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ، فإن أجاب عنها كلها فليس بنبيء . وإن أجاب عن بعضها وأمسك عن بعض فهو نبيء ؟ . وبيّنا هنالك وجه التعجيل في سورة الإسراء النازلة قبل سورة الكهف بالجواب عن سؤالهم عن الروح وتأخير الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين إلى سورة الكهف . وأعقبنا ذلك بما رأيناه في تحقيق الحق من سَوق هذه الأسئلة الثلاثة في مواقع مختلفة .

فالسائلون : قريش لا محالة ، والمسؤول عنه : خبر رجل من عظماء العالم عرف بلقب ذي القرنين ، كانت أخبار سيرته خفيّة مُجملة مغلقة ، فسألوا النبي عن تحقيقها وتفصيلها ، وأذن له الله أن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شؤون الصلاح والعدل ، وفي عجيب صنع الله تعالى في اختلاف أحوال الخلق ، فكان أحْبار اليهود منفردين بمعرفة إجمالية عن هذه المسائل الثلاث وكانت من أسرارهم فلذلك جَرّبوا بها نبوءة محمد .

ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه ، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص وليس من أغراض القرآن ، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حِكميةً أو خُلقيةً فلذلك قال الله : { قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِنهُ ذِكراً } .

والمراد بالسؤال عن ذي القرنين السؤال عن خبره ، فحذف المضاف إيجازاً لدلالة المقام ، وكذلك حذف المضاف في قوله : { مِنْهُ } أي من خبره و ( مِن ) تبعيضية .

والذكر : التذكر والتفكر ، أي سأتلو عليكم ما به التذكر ، فجعل المتلو نفسه ذكراً مبالغة بالوصف بالمصدر ، ولكن القرآن جاء بالحق الذي لا تخليط فيه من حال الرجل الذي يوصف بذي القرنين بما فيه إبطال لما خلط به الناس بين أحوال رجال عظماء كانوا في عصور متقاربة أو كانت قصصهم تُساق مساق من جاسوا خلال بلاد متقاربة متماثلة وشوهوا تخليطهم بالأكاذيب ، وأكثرهم في ذلك صاحب الشاهنامة الفردوسي وهو معروف بالأكاذيب والأوهام الخرافية .

اختلف المفسرون في تعيين المسمى بذي القرنين اختلافاً كثيراً تفرقت بهم فيه أخبار قصصية وأخبار تاريخية واسترواح من الاشتقاقات اللفظية ، ولعل اختلافهم له مزيد اتصال باختلاف القصّاصين الذين عُنوا بأحوال الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق فراموا تطبيق هذه القصة عليها . والذي يجب الانفصال فيه بادىء ذي بدء أن وصفه بذي القرنين يتعين أن يكون وصفاً ذاتياً له وهو وصف عربي يظهر أن يكون عرف بمدلوله بين المثيرين للسؤال عنه فترجموه بهذا اللفظ .

ويتعين أن لا يحمل القرنان على الحقيقة ، بل هما على التشبيه أو على الصورة . فالأظهر أن يكونا ذُؤابتين من شعر الرأس متدليتين ، وإطلاق القرن على الضفيرة من الشعر شائع في العربية ، قال عُمر بن أبي ربيعة :

فلثمت فاها آخذاً بقُرونها *** شُرب النزيف ببرَد ماء الحشرج

وفي حديث أم عطية في صفة غسل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم عطية : « فجعلنا رأسها ثلاثة قرون » ، فيكون هذا الملك قد أطال شعر رأسه وضفره ضفيرتين فسمي ذا القرنين ، كما سمّي خِربَاق ذا اليدين .

وقيل : هما شبه قرني الكبش من نحاس كانا في خوذة هذا الملك فنُعت بهما . وقيل : هما ضربتان على موضعين من رأس الإنسان يشبهان منبتي القرنين من ذوات القرون .

ومن هنا تأتي الأقوال في تعيين ذي القرنين ، فأحد الأقوال : إنه الإسكندر بن فيليبوس المقدوني . وذكروا في وجه تلقيبه بذي القرنين أنه ضفر شعره قرنين . وقيل : كان يلبس خوذة في الحرب بها قرنان ، وقيل : رسم ذاته على بعض نقوده بقرنين في رأسه تمثيلاً لنفسه بالمعبود ( آمون ) معبود المصريين وذلك حين ملَك مصر .

والقول الثاني : إنه ملك من ملوك حمير هو تُبّع أبو كرب .

والقول الثالث : أنه ملك من ملوك الفرس وأنه ( أفريدون بن أثفيان بن جمشيد ) . هذه أوضح الأقوال ، وما دونها لا ينبغي التعويل عليه ولا تصحيح روايته .

ونحن تجاه هذا الاختلاف يحق علينا أن نستخلص من قصته في هذه الآية أحوالاً تقرّب تعيينه وتزييف ما عداه من الأقوال ، وليس يجب الاقتصار على تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال بل الأمر في ذلك أوسع .

وهذه القصة القرآنية تعطي صفات لا محيد عنها :

إحداها : أنه كان ملكاً صالحاً عادلاً .

الثانية : أنه كان ملهَماً من الله .

الثالثة : أن مُلكه شمل أقطاراً شاسعة .

الرابعة : أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكاناً كان مجهولاً وهو عين حَمئة .

الخامسة : أنه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج ، وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية والغربية فكانت وسطاً بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه .

السادسة : أنه أقام سدّاً يحول بين ياجوج وماجوج وبين قوم آخرين .

السابعة : أن ياجوج وماجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فساداً وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم موالين لهذا الملك .

الثامنة : أنه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في الحديد والبناء .

التاسعة : أن خبره خفيّ دقيق لا يعلمه إلاّ الأحبار علماً إجمالياً كما دل عليه سبب النزول .

وأنت إذا تدبرت جميع هذه الأحوال نفيت أن يكون ذو القرنين إسكندر المقدوني لأنه لم يكن ملكاً صالحاً بل كان وثنياً فلم يكن أهلاً لتلقي الوحي من الله وإن كانت له كمالات على الجملة ، وأيضاً فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سُدّاً بين بلدَين .

وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد ياجوج وماجوج إليه في كلام بعض المؤرخين فهو ناشىء عن شهرة الإسكندر ، فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلاّ من بنائه ، كما توهم العرب أن مدينة تَدمر بناها سليمان عليه السلام . وأيضاً فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الإسكندر حارب أمة ( سكيثوس ) . وهذا الاسم هو اسم ماجوج كما سيأتي قريباً{[273]} .

وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم اسكندر المقدوني أثراً في اشتهار نسبة السد إليه . وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام .

ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة ، وفي الشرق إلى قوم مجهولين عُراة أو عديمي المساكِن ، ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين . وإنما انتحل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعْنيّ بذي القرنين في هذه الآية ، فمنحه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين ، وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به . وأيضاً فالإسكندر كانت أخباره مشهورة لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمّتان مجاورتان للأمة العربية .

ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملكُ المتحدث عنه هو أفريدون ، فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم . وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصراً إبراهيم عليه السلام وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع . ولكن يبعد أن يكون هو المراد لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا ، وقد ظهر من أقوالهم أنّ سبب هذا التوهم هو وجود كلمة ( ذو ) التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته .

فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكاً من ملوك الصين لوجوه :

أحدها : أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع .

الثاني : أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة .

الثالث : أن من سماتهم تطويل شعر رؤوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين .

الرابع : أن سُداً ورَدْماً عظيماً لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المَغُول ، وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم ، وسيرد وصفه .

الخامس : ما روت أم حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فقال : « ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا » وأشار بعقد تسعين ( أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام ) . وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن ياجوج وماجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم ، وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيف لا تلقيب فهو مثل التعبير عن شَاول ملك إسرائيل باسم طالوت .

وهذا الملك هو الذي بنى السدّ الفاصل بين الصين ومنغوليا . واسم هذا الملك ( تْسِينْشِي هْوَانْفتي ) أو ( تْسِينْ شِي هْوَانْقْ تِي ) . وكان موجوداً في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن . وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين ( كنفيشيوس ) المشرع المصلح ، فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين .

وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره وأفسد كثيراً وقتل علماء وأحرق كتباً ، والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها .

ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر بن فيليبوس نحلوه بناء السدّ . وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين . وكل ذلك بناء أوهام على أوهام ولا أساس لواحِد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة .

والأمر في قوله { قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم } إذن من الله لرسوله بأن يَعد بالجواب عن سؤالهم عملاً بقوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } على أحد تأويلين في معناه .

والسين في قول { سَأَتْلُوا عَلَيْكُم } لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى : { قال سوف أستغفر لكم ربّي } في سورة يوسف ( 98 ) .

وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكراً للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوةً حسب شأن القرآن فإنّه يُتلى لأجل الذكر ولا يُساق مساق القصص .

وقوله { مِنْهُ ذِكْراً } تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكراً وعظة . ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف : نحن نقصّ عليك من نبئهم ، لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر ، وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا .

وحرف ( من ) في قوله { مِنْهُ ذِكْراً } للتبعيض باعتبار مضاف محذوف ، أي من خبره .


[273]:- انظر القاموس الجديد تأليف لاروس في مادة سكيثس.