فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

{ ويسألونك } هم اليهود أي سؤال تعنت { عن ذي القرنين } واختلفوا فيه اختلافا كثيرا ، فقيل هو الإسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا بأسرها اليوناني باني الإسكندرية .

وقال ابن إسحاق : هو رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح ، وقيل هو ملك اسمه هرمس وقيل هردس ، وقيل شاب من الروم وقيل كان نبيا وقيل كان عبدا صالحا وقيل اسمه عبد الله بن الضحاك وقيل مصعب بن عبد الله من أولاد كهلان بن سبا .

وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال : إن الظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه السلام ، والآخر كان قريبا من عيسى عليه السلام ، وقيل هو أبو كرب الحميري وقيل هو ملك من الملائكة ؛ ورجح الرازي القول الأول قال : لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو إسكندر اليوناني كما يشهد به كتب التواريخ قال فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الاسكندر .

قال : وفيه إشكال لأنه كان تلميذا لأرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق ، وذلك مما لا سبيل إليه .

قال النيسابوري : قلت ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلا فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر والله أعلم ، ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي من أنهما اثنان كما قدمنا ذلك وبين أن الأول طاف بالبيت مع إبراهيم أول ما بناه وآمن به واتبعه وكان وزيره الخضر ، وأما الثاني فهو الإسكندر المقدوني اليوناني وكان وزيره الفيلسوف المشهور أرسطاطاليس وكان من قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل .

هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راويا له عن الأزرقي وغيره ثم قال : وقد ذكرنا طرفا صالحا في أخباره في كتاب ( البداية والنهاية ) بما فيه كفاية{[1134]} ، وحكى أبو السعود في تفسيره عن ابن كثير أنه قال ؛ وإنما بينا هذا يعني أنهما اثنان لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد ، وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر فيقع بذلك خطأ كثير وفساد كبير .

كيف لا والأول كان عبدا صالحا مؤمنا وملكا عادلا ووزيره الخضر ، وقد قيل إنه كان نبيا ، وأما الثاني فقد كان كافرا ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف وكان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة ، فأين هذا من ذاك انتهى .

قلت : لعله ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقا وسماه بالبداية والنهاية ولم نقف عليه والذي يستفاد من كتب التاريخ هو أنهما اثنان كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم لا كما ذكر الرازي وادعى أنه الذي تشهد به كتب التواريخ وقد وقع الخلاف هل هو نبي أم لا ؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين : المشهور المتواتر أن أرسطو وزير الإسكندر بن فيلبس كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وكثير من الجهال يحسب أن هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن ويعظم أرسطو بكونه كان وزيرا له كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله من الجهال بأخبار الأمم ، وهذا من جهلهم فإن الإسكندر الذي وزر له أرسطو هو المقدوني الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى وهو إنما ذهب إلى أرض القدس لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره ، وكان مشركا يعبد الأصنام ، وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام وذو القرنين كان موحدا مؤمنا بالله وكان متقدما على هذا ؛ ومن يسميه الإسكندر ويقول هو الإسكندر بن فيلبس .

ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض ، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام ، وإنما ينفقون{[1135]} في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفارا وإما منافقين كما نفق منهم من نفق على المنافقين الملاحدة ثم نفق على المشركين الترك ، وكذلك إنما ينفقون دائما على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين انتهى .

وأما السبب الذي لأجله سمي ذا القرنين فقال الزجاج والأزهري : إنما سمي ذا بلغ القرنين لأنه قرن الشمس من مطلعها وقرن الشمس من مغربها ، وقيل إنه كان له ضفيرتان من شعر والضفائر تسمى قرونا ، وقيل إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمي بذلك ، وقيل كان له قرنان تحت عمامته ، وقيل : إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر وقيل إنما سمي بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي ، وقيل لأنه كان إذا قاتل بيديه وركائبه جميعا ، وقيل لأنه أعطى علم الظاهر والباطن .

وقيل لأنه دخل النور والظلمة ، وقيل لأنه ملك فارس والروم ، وقيل لأنه ملك الروم والترك ، وقيل : لأنه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال والجنوب ، وهذا هو القدر المعمور من الأرض ، وقيل لأن كان لتاجه قرنان .

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أدري أتبّع كان نبيا أم لا ؟ وما أدري أذو القرنين كان نبيا أم لا ؟ وما أدري الحدود كفارات أهلها أم لا{[1136]} ؟ أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم .

وعن عليّ بن أبي طالب قال ؛ لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا أحب الله فأحبه الله ، ونصح لله فنصحه الله ، بعثه الله إلى قوم فضربوه على قرنه فمات ثم أحياه الله لجهادهم ، ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات ثم أحياه الله لجهادهم ، فلذلك سمي ذا القرنين وإن فيكم مثله .

وعن ابن عمر قال : ذو القرنين نبي ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : هو ملك يسيح الأرض بالأسباب ، أخرجه ابن حاتم عن الأحوص بن حكيم عن أبيه وعن عمر ابن الخطاب أنه سمع رجلا ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال ها أنتم سميتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة ، وفي الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه .

وقد أخرج أبو الشيخ والبيهقي عن عقبة بن عامر الجهني حديثا يتضمن أن نفرا من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذي القرنين فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء وكان فيما أخبرهم به أنه كان شابا من الروم وأنه بنا الإسكندرية وأنه علا به ملك إلى السماء وذهب به إلى السد ، وإسناده ضعيف وفي متنه نكارة ، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل ، ذكر معنى هذا ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى ابن جرير والأموي في مغازيه : ثم قال بعد ذلك والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة انتهى{[1137]} .

وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدر المنثور وساق أيضا خبرا طويلا عن وهب بن منبه وعزاه إلى ابن إسحاق وابن المنذر وغيرهم ، وفيه أشياء منكرة جدا وكذلك ذكر خبرا طويلا عن محمد الباقر أخرجه أبو الشيخ وغيره ، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل الكتاب وقد أمرنا بأن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا .

واختلفوا أيضا في وقته فقال قوم : كان بعد موسى ، وقال قوم : كان في الفترة بعد عيسى ، وقال قوم : كان في وقت إبراهيم وإسماعيل ، وقد حققنا ذلك في لقطة العجلان فراجعه .

وبالجملة فإن الله مكنه وملكه ودانت له الملوك ، وروي أن الذين ملكوا الدنيا أربعة مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان سليمان بن داود والإسكندر ، والكافران نمروذ وبختنصر ، وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى { ليظهره على الدين كله } وهو المهدي ذكره القرطبي .

وعن السدي قال ؛ قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين إنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد ، قال ومن هو ؟ قالا ذو القرنين قال : ما بلغني عنه شيء فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم ، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهذه الآيات ويسألونك عن ذي القرنين .

{ قل سأتلو عليكم } أيها السائلون { منه } أي من ذي القرنين { ذكرا } خبرا وذلك بطريق الوحي المتلو .


[1134]:ابن كثير 3/100.
[1135]:أي يروجون.
[1136]:المستدرك كتاب التفسير 2/450.
[1137]:ابن كثير 3/100.