اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا} (83)

قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } الآية .

قد تقدَّم في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الرُّوح ، فقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } هو ذلك السؤال ، واختلفوا في ذي القرنين ، فقيل : هو الإسكندر بن فيلبوس اليونانيُّ ، وقيل : كان اسمه مرزبان بن مرزبة من ولد يونان بن يافث بن نوحٍ ، وكان أسود ، قال بعضهم : كان نبيًّا ، لقوله تعالى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض } والأولى حمله على التمكين في الدِّين ، والتَّمكين الكامل في الدِّين هو النبوة ، ولقوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } ومن جملة الأسباب النبوة ، فمقتضى العموم أنه آتاهُ من النبوة سبباً ، ولقوله تعالى : { ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } والذي يتكلَّم الله معه لابد وأن يكون نبياً . قال أبو الطفيل ، وسئل عن ذي القرنين : أكان نبيًّا أم ملكاً ؟ قال : لم يكن نبياً ، ولا ملكاً ، ولكن كان عبداً أحبَّ الله ، فأحبَّه الله ، وناصح الله فناصحه .

روي أنَّ عمر - رضي الله عنه - سمع رجلاً يقول لآخر : " يَا ذَا القرنين " فقال : تسمَّيتم بأسماء النبيين ، فلم ترضوا حتى تسمّيتم بأسماء الملائكة . والأكثرون على أنه كان ملكاً عادلاً صالحاً ، واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين قيل : لأنه بلغ قرني الشمس : مشرقها ومغربها ، وأيضاً : بلغ ملكه أقصى الشمال ، لأنَّ " يأُجوجَ ومأجُوجَ " قومٌ من التركِ يسكنون في أقصى الشمالِ ، فهذا المسمَّى بذي القرنين قد دلَّ القرآن على أنَّ ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال ، وهذا نهاية المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط على خلاف العادات ، فيجب أن يبقى ذكره مخلّداً على وجه الدهر لا يخفى ، والذي اشتهر في كتب التواريخ أن الذي بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر ، وذلك أنه لمَّا مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ، وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر ، فبنى الإسكندرية ، وسمَّاها باسم نفسه ، ثم دخل الشَّام ، وقصد بني إسرائيل ، وورد " بيت المقدس " ، وذبح في مذبحه ، ثم انعطف إلى " أرمينيَّة " و " باب الأبواب " ودان له العراقيُّون ، والقبط ، والبربر ، ثم توجه نحو دارا بن دارا ، وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه ، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس ، وقصد الهند والصِّين ، وغزا الأمم البعيدة ، ورجع إلى " خراسان " وبنى المدن الكثيرة ، ورجع إلى العراق ، ومرض ب " شهرزور " ومات ، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض أو ما يقرب منها ، وثبت من التَّواريخ أن من هذا شأنه ما كان إلاَّ الإسكندر وجب القطعُ بأنَّ المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني .

قيل : وسمِّي بذي القرنين ، لأنه ملك الرُّوم وفارس ، وقيل : لأنه دخل النور والظلمة ، وقيل : لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشَّمس ، وقيل : لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان ، وقيل : لأنه كان له قرنان تواليهما العمامة .

وروى أبو الفضلِ عن عليّ أنه أمر قومهُ بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيمن ، فمات ، فبعثه الله ، فأمرهم بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيسر ، فمات فأحياه الله .

وقيل : كان لتاجه قرنان ، وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس ، وقيل : لأن الله سخر له النُّور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتمتد الظلمة من ورائه .

فروي أن ذا القرنين أمر ببناء مدنٍ كثيرةٍ منها : " الدبوسية " و " حمدان " و " برج الحجارة " ، ولما بلغ " الهند " بنى مدينة " سرنديب " وأن أرباب الحساب قالوا له : إنَّك لا تموتُ إلا على أرض من حديدٍ ، وسماء من خشب ، وكان يدفن كنوز كلِّ بلدٍ فيها ، ويكتب ذلك معه بصفته وموضعه ، فبلغ " بابل " ، فرعف ، فسقط عن دابَّته ، فبسطت له دروع فنام عليها ، فآذته الشمس ، فأظلوه بتُرسٍ ، فنظر وقال : هذه أرضٌ من حديدٍ وسماء من خشبٍ ، فأيقن بالموت ، فمات وهو ابنُ ألف سنة وثلاثمائة سنة .

وقال أبو الرَّيحان البيروني في كتابه المسمَّى ب " الآثار الباقية عن القرون الخالية " : قيل : إنَّ ذا القرنين هو أبو كربٍ سُمَيُّ بن عبرين بن أقريقيش الحميريّ ، وأنَّ ملكهُ بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير : [ الكامل ]

قَدْ كَانَ ذُو القَرنيْنِ قَبْلي مُسْلِماً *** مَلِكاً عَلا فِي الأرْضِ غير مُفَنَّدِ

بلغَ المشارِقَ والمغارِبَ يَبتَغِي *** أسْبابَ ملكٍ من كَرِيم سيِّدِ{[21294]}

ثم قال أبو الريحان : ويشبهُ أن يكون هذا القول أقرب ، لأن الأذواء كانوا من اليمن ، وهم الذين لا يخلون أساميهم من " ذي كذا " المنار ، و " ذي نواس " ، و " ذي النُّون " ، و " ذي رعين " والقول الأول أظهر ، لما تقدم من الدليل ، ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سمِّي ذا القرنَيْنِ لأنَّه طاف قرنَي الدُّنيا شرقها وغربها " {[21295]} .

قال ابن الخطيب : إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً قويًّا ، وهو أن الإسكندر كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم ، وكان على مذهبه ، فتعظيم الله إيَّاه يُوجِبُ الحكم بأنَّ مذهب أرسطاطاليس حقٌّ وصدقٌ ، وذلك ممَّا لا سبيل إليه .

قال ابن كثير : روي عن ابن عباسٍ : أنَّ اسم ذي القرنين عبد الله بن الضحاك .

وقيل : مصعبُ بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الآزر بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان .

وروي أنَّه كان من حمير ، وأمُّه روميَّة ، وأنه كان يقال له الفيلسوفُ ؛ لعقله .

وقال السهيلي{[21296]} : قيل : كان اسمه مرزبي بن مرذبة ذكره ابن هشام ، وهو أول التَّبابعة .

وقيل : إنه أفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك ويروى في خطبة قيس بن ساعدة التي خطبها بسوق عكاظ ، أنه قال فيها يا معشر إياد أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين ، وأوّل المسلمين ، وعمر ألفين ، ثم كان ذلك كطرفة عين ، وأنشد ابن هشام : [ الكامل ]

والصَّعبُ ذُو القرنيْنِ أصْبحَ ثَاوِياً *** بالحِنْوِ حيث أميم مقيم{[21297]}

أمَّا ذو القرنين الثاني فهو الإسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن هردوس ابن ميطون بن رومي بن نويط بن نوفيل بن ليطى بن يونان بن يافث بن نوح بن سرحون بن رومي بن قريط بن نوفيل بن رومي بن الأصفر بن اليغز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليه السلام - كذا نسبه ابن عساكر المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية الذي يؤرِّخ بأيَّامه الروم ، وكان متأخِّراً عن الأول بدهر طويل ، وكان هذا قبل المسيح بنحوٍ من ثلاثمائة سنة ، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف ، وهو قتل دارا بن دارا [ ملك ] ملوكِ الفرس .

وإنما نبهنا على هذا ؛ لأنَّ كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ ، وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيرهُ ، فيقع بذلك خطأ كثير ؛ فإنَّ الأول كان مؤمناً عبداً صالحاً ، وملكاً عادلاً ، وكان وزيره الخضر - عليهما السلام - وكان نبيًّا ، وأمَّا الثاني فكان مشركاً ، وكان وزيره فيلسوفاً ، وكان بين زمانيهما أزيد من ألفي [ سنة ] فأين هذا من هذا ؟ .

قوله : " سَأتلُو " : دخلت السين ها هنا ؛ لأن المعنى أني سأفعل هذا إن وفَّقني الله عليه ، وأنزل عليَّ وحياً ، وأخبرني عن كيفية تلك الحال .

قوله " مِنْهُ ذِكْراً " أي : من أخباره وقصصه .


[21294]:ينظر: الرازي 21/140. وذكر لهما القرطبي 11/34، بيتا ثالثا: فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد.
[21295]:ينظر: تفسير الرازي 21/140.
[21296]:ينظر: الروض الأنف 2/59.
[21297]:البيت أنشده ابن هشام للأعشى وهو في الروض الأنف 2/59.