قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع } . والنعيق والنعق صوت الراعي بالغنم ، معناه مثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم ، وقيل مثل واعظ الكفار وداعيهم معهم كمثل الراعي ينعق بالغنم وهي لا تسمع .
قوله تعالى : { إلا دعاء } . صوتاً .
قوله تعالى : { ونداء } . فأضاف المثل إلى الذين كفروا لدلالة الكلام عليه كما في قوله تعالى ( واسأل القرية ) معناه ، كما أن البهائم تسمع صوت الراعي ولا تفهم ولا تعقل ما يقال لها ، كذلك الكافر لا ينتفع بوعظك إنما يسمع صوتك . وقيل : معناه : ومثل الذين كفروا في قلة عقلهم وفهمهم عن الله وعن رسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي إلا الصوت . فيكون المعنى للمنعوق به والكلام خارج عن الناعق وهو فاش في كلام العرب . يفعلون ذلك ويقلبون الكلام لإيضاح المعنى عندهم ، يقولون فلان يخافك كخوف الأسد ، أي كخوفه الأسد . وقال تعالى ( ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة ) وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح . وقيل معناه مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء ، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة وعبادتها إلا العناء والبلاء كما قال تعالى ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ) . وقيل معنى الآية ومثل الذين كفروا في دعاء الأوثان كمثل الذي يصيح في جوف الجبال فيسمع صوتاً يقال له : الصداء لا يفهم منه شيء ، فمعنى الآية كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاء ونداء .
قوله تعالى : { صم } . تقول العرب لمن لا يسمع ولا يعقل : كأنه أصم .
قوله تعالى : { بكم } . عن الخير لا يقولونه .
ثم قال [ تعالى ] : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }
لما بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل ، وردهم لذلك بالتقليد ، علم من ذلك أنهم غير قابلين للحق ، ولا مستجيبين له ، بل كان معلوما لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم ، أخبر تعالى ، أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها ، وليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها ، فهم يسمعون مجرد الصوت ، الذي تقوم به عليهم الحجة ، ولكنهم لا يفقهونه فقها ينفعهم ، فلهذا كانوا صما ، لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول ، عميا ، لا ينظرون نظر اعتبار ، بكما ، فلا ينطقون بما فيه خير لهم .
والسبب الموجب لذلك كله ، أنه ليس لهم عقل صحيح ، بل هم أسفه السفهاء ، وأجهل الجهلاء .
فهل يستريب العاقل ، أن من دعي إلى الرشاد ، وذيد عن الفساد ، ونهي عن اقتحام العذاب ، وأمر بما فيه صلاحه وفلاحه ، وفوزه ، ونعيمه فعصى الناصح ، وتولى عن أمر ربه ، واقتحم النار على بصيرة ، واتبع الباطل ، ونبذ الحق - أن هذا ليس له مسكة من عقل ، وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة والدهاء ، فإنه من أسفه السفهاء .
ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود ، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها ، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا تعني ! بل هم أضل من هذه البهيمة ، فالبهمية ترى وتسمع وتصيح ، وهم صم بكم عمي :
( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء . صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) !
صم بكم عمي . ولو كانت لهم آذان والسنة وعيون . ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون . فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها ، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون .
وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره ، ويغلق منافذ المعرفة والهداية ، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة . .
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( 171 )
وقوله تعالى : { ومثل الذين كفروا } الآية ، المراد تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم والكافرين الموعوظين بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقه ما يقول ، هكذا فسر ابن عباس وعكرمة والسدي وسيبويه .
قال القاضي أبو محمد : فذكر بعض هذه الجملة وترك البعض ، ودل المذكور على المحذوف وهذه نهاية الإيجاز( {[1544]} ) .
والنعيق زجر الغنم والصياح بها ، قال الأخطل : [ الكامل ]
انعَقْ بِضَأْنِكَ يا جَرِيرُ فإنَّما . . . منَّتْكَ نَفْسُكَ في الْخَلاَءِ ضَلاَلا( {[1545]} )
وقال قوم : إنما وقع هذا التشبيه براعي الضأن لأنها من أبلد الحيوان ، فهي تحمق راعيها ، وفي المثل أحمق من راعي ضأن ثمانين( {[1546]} ) ، وقد قال دريد لمالك بن عوف في يوم هوازن «راعي ضأن والله »( {[1547]} ) ، وقال الشاعر : [ البسيط ]
أَصْبَحْتُ هُزْءاً لراعي الضَّأْنِ يَهْزَأُ بي . . . مَاذَا يرِيبُكَ منّيَ رَاعيَ الضَّانِ( {[1548]} )
فمعنى الآية أن هؤلاء الكفرة يمر الدعاء على آذانهم صفحاً يسمعونه ولا يفقهونه إذ لا ينتفعون بفقهه( {[1549]} ) ، وقال ابن زيد : المعنى في الآية : ومثل الذين كفروا في اتباعهم آلهتهم وعبادتهم إياها كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه شيئاً إلا دوياً غير مفيد ، يعني بذلك الصدى الذي يستجيب من الجبال ، ووجه الطبري في الآية معنى آخر ، وهو أن المراد : ومثل الكافرين في عبادتهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد منه فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه ويصبه ، فإنما شبه في هذين( {[1550]} ) التأويلين الكفار بالناعق والأصنام بالمنعوق به ، وشبهوا في الصمم والبكم والعمى بمن لا حاسة له لما لم ينتفعوا بحواسهم ولا صرفوها في إدراك ما ينبغي ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
أصم عمّا ساءه ، سميع( {[1551]} ) . . . ولما تقرر فقدهم لهذه الحواس قضى بأنهم { لا يعقلون } إذ العقل كما قال أبو المعالي وغيره : علوم ضرورية تعطيها هذه الحواس ، أو لا بد في كسبها من الحواس ، وتأمل( {[1552]} ) .