الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

قوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } : اختلفَ الناسُ في هذه الآيةِ اختلافاً كثيراً واضطربوا اضطراباً شديداً ، وأنا بعونِ اللَّهِ قد لَخَّصْتُ أقوالَهم مهذبةً ، ولا سبيلَ إلى معرفةِ الإِعرابِ إلاَّ بعد معرفةِ المعنى المذكورِ في هذه الآيةِ .

وقد اختلفُوا في ذلك : فمنهم مَنْ قال : معناها أنَّ المَثَلَ مضروبٌ بتشبيهِ الكافِرِ بالناعِقِ . ومنهم مَنْ قالَ : هو مضروبٌ بتشبيهِ الكافر بالمنعوق به . ومنهم مَنْ قال : هو مضروبٌ بتشبيهِ الداعي والكافرِ بالناعقِ والمنعوقِ به . فهذه أربعةُ أقوالٍ .

فعلى القولِ الأولِ : يكون التقديرُ : " وَمَثَلُ الذين كفروا في قلةِ فَهْمِهِمْ كمثلِ الرعاةِ يُكَلِّمون البُهْمَ ، والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً " . وقيلَ : يكون التقديرُ : ومثلُ الذين كفروا في دعائِهم آلهتَهم التي لا تفقَه دُعَاءَهم كمَثَلِ الناعِقِ بغنمِهِ لا ينتفعُ من نعيقِهِ بشيءٍ ، غيرَ أنَّه في عَناءٍ ، وكذلك الكافرُ ليس له من دعائِهِ الآلهةَ إلا العَناءُ .

قال الزمخشري - وقد ذكر هذا القولَ - " إلاَّ أَنَّ قولَه { إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } لا يساعدُ عليه لأنَّ الأصنامَ لا تَسْمَعُ شيئاً " . قال الشيخ : " ولَحَظَ الزمخشري في هذا القولِ تمامَ التشبيهِ من كلِّ جهةٍ ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فكذلك مدعُوُّ الكافرِ من الصنمِ ، والصنَمُ لا يسمع ، فَضَعُفَ عنده هذا القولُ " قال : " ونحن نقول : التشبيهُ وَقَعَ في مُطْلَقِ الدعاءِ لا في خصوصياتِ المدعوِّ ، فتشبيه الكافرُ في دعائه الصنمَ بالناعِقِ بالبهيمةِ لا في خصوصياتِ المنعوقِ به " .

وقيل في هذا القولِ : - أعني قولَ مَنْ قال التقديرُ : وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهِم آلهتَهم - إن الناعق هنا ليس المرادُ به الناعقَ بالبهائِمِ ، وإنما المرادُ به الصائحُ في جوفِ الجبلِ فيجيبُه الصَّدى ، فالمعنى : بما لا يَسْمَعُ منه الناعقُ إلا دعاءَ نفسِهِ ونداءها ، فعلى هذا القولِ يكونُ فاعلٌ " يسمع " ضميراً عائداً على الذين يَنْعِقُ ، ويكونُ العائدُ على " ما " الرابطُ للصلةِ بالموصولِ محذوفاً لفهمِ المعنى ، تقديرُه : بما لا يَسْمَعُ منه ، وليس فيه شرطُ جوازِ الحذفِ فإنَّه جُرَّ بحرفٍ غيرِ ما جُرَّ به الموصولُ ، وأيضاً فقد اختَلَفَ متعلَّقاهما ، إلا أنه قد وَرَدَ ذلك في كلامهم . وأمّا على القولين الأوَّلَيْن فيكون فاعلُ " يَسْمَعُ " ضميراً يعود على " ما " الموصولةِ ، وهو المنعوقُ به . وقيل : المرادُ بالذين كفروا المتبوعون لا التابعون ، والمعنى : مَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم أتباعَهم ، وكونِ أتباعِهم لا يحصُلُ لهم منهم إلا الخَيْبَةُ ؛ كَمَثَلِ الناعِقِ بالغنم . فعلى هذه الأقوالِ كلِّها يكونُ " مثل " مبتدأً و " كمثلِ " خبرَه ، وليس في الكلام حذفٌ إلا جهةُ التشبيهِ .

وعلى القولِ الثاني من الأقوالِ الأربعةِ المتقدمةِ فقيل : معناه : وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم إلى الله تعالى وَعَدَمِ سماعِهِم إياه كَمَثَلِ بهائِمِ الذي يَنْعِقُ ، فهو على حذفِ قيدٍ في الأولِ وحَذْفِ مضافٍ في الثاني .

وقيل التقديرُ : وَمَثَلُ الذين كفروا في عَدَم فَهْمِهِم عن اللِّهِ ورسولِهِ كَمَثَلِ المنعوقِ به من البهائِمِ التي لا تَفْقَهُ من الأمرِ والنهي غيرَ الصوتِ ، فيُرادُ بالذي يَنْعقُ الذي يُنْعَقُ به ويكونُ هذا من القلبُ ، وقال قائلُ هذا : كما تقولون : " دَخَلَ الخاتَمُ في يدي والخِفُّ في رِجْلِي " . وإلى هذا التفسير ذهب الفراءُ وأبو عبيدة وجماعةٌ ، إلا أن القلبَ لا يقعُ على الصحيح إلا في ضرورةٍ أو ندورٍ .

وأمَّا على القولِ الثالثِ فتقديرُهُ : وَمَثَلُ داعي الذين كفروا كمثلِ الناعِقِ بغنمِهِ ، في كونِ الكافرِ لا يَفْهَمُ مِمَّا يخاطِبُ به داعيه إلا دَوِيَّ الصوتِ دونَ إلقاء فكرٍ وذهنٍ ، كما أنَّ البهيمَةَ كذلك ، فالكلامُ على حَذْفِ مضافٍ من الأول . قال الزمشخري : " ويجوز أن يُرادَ ب " ما لا يَسْمَعُ " الأصَمُّ الأصلج الذي لا يَسْمَعُ من كلامِ الرافعِ صوتَه بكلامِهِ إلا النداءَ والصوتَ لا غيرُ من غير فَهْمٍ للحروفِ " وهذا منه جنوحٌ إلى جوازِ إطلاقِ " ما " على العقلاءِ ، أو لَمَّا تَنَزَّل هذا منزلةَ مَنْ لا يَسْمَعُ مِنَ البهائِم أوقَعَ عليه " ما " .

وأمَّا على القولِ الرابعِ - وهو اختيار سيبويهِ في هذه الآية - وتقديرُه عندَه : " مَثَلُكَ يا مُحَمَّدُ ومثلُ الذين كفروا كمثلِ الناعقِ والمنعوقِ به " واختلفَ الناسُ في فَهْمِ كلامِ سيبويه ، فقائلٌ : هو تفسير معنىً ، وقيل : تفسيرُ إعرابٍ ، فيكونُ في الكلامِ حَذْفَان : حَذْفٌ من الأولِ وهو حَذْفُ " داعيهم " وقد أثبتَ نظيره في الثاني ، وحَذْفٌ من الثاني وهو حَذْفُ المنعوقِ ، وقد أثبت نظيرَه في الأول ، فشبَّه داعيَ الكفارِ براعي الغنم في مخاطبتِهِ مَنْ لا يَفْهَمُ عنه ، وَشَبَّه الكفارَ بالغنَمِ في كونِهِم لا يسمعونَ مِمَّا دُعُوا إليه إلاَّ أصواتاً لا يَعْرفون ما وراءها . وفي هذا الوجْهِ حَذْفٌ كثيرٌ ، إذ فيه حَذْفُ معطوفَيْنِ إذ التقديرُ الصناعي : وَمَثَلُ الذين كفروا وداعيهم كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بالمنعوقِ به . وقد ذَهَبَ إليه جماعةٌ منهم أبو بكر ابنُ طاهر ، وابن خروف والشلوبين ، قالوا : العربُ تستحسنُ هذا ، وهو من بديعِ كلامِها ، ومثلُه قولُه : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ } [ النمل : 12 ] تقديرُهُ : وأَدْخِلْ يَدَكَ في جيبكَ تَدْخُلْ ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ ، فَحذَف " تَدْخُلْ " لدلالة " تَخْرُجْ " وَحَذَفَ " وَأَخْرِجْهَا " لدلالةِ : " وَأَدْخِلْ " ، قالوا : ومثلُهُ قولُه :

وإني لَتَعْروني لذاكراكِ فَتْرَةٌ *** كما انتَفَضَ العُصْفُورَ بَلَّلَهُ القَطْرُ

لم يُرِدْ أن يُشَبِّه فترَتَه بانتفاضِ العصفورِ حين بَلَّلهُ القَطْرُ لأنَّهما ضِدَّان ، إذ هما حركةٌ وسكونٌ ، ولكنَّ تقديرَه : إني إذا ذكرتُكِ عَراني انتفاضٌ ثم أفترُ ، كما أنَّ العصفورَ إذا بلَّله القطرُ عراهُ فترةٌ ثم يَنْتَفِضُ ، غيرَ أَنَّ وجيبَ قلبِهِ واضطرابَه قبل الفترة ، وفترةَ العصفورِ قبل انتفاضه .

وهذه الأقوالُ كلُّها إنما هي على القولِ بتشبيهِ مفردٍ بمفردٍ ومقابلةِ جزءٍ من الكلام السابقِ بجزءٍ من الكلامِ المشبَّهِ به ، أمَّا إذا كانَ التشبيهُ من بابِ تشبيهِ جملةٍ بجملةٍ فلا يُنْظَرُ في ذلك إلى مقابلةِ الألفاظِ المفردةِ ، بل يُنْظَرُ إلى المعنى ، وإلى هذا نَحَا أبو القاسم الراغبُ . قال الراغب : " فلما شَبَّه قصةَ الكافرين في إعراضِهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ بقصةِ الناعقِ قدَّم ذكرَ الناعقِ لينبني عليه ما يكونُ منه ومن المنعوقِ به " .

والكاف ليست بزائدةً خلافاً لبعضهم ؛ لأنَّ الصفةَ ليست عينَ الصفةِ الأخرى فلا بُدَّ من الكافِ ، حتى إنه لو جاءَ الكلامُ دونَ الكافِ اعتقادنا وجودَها تقديراً تصحيحاً للمعنى .

وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أنَّ " مثلُ الذين " مبتدأٌ ، و " كمثل الذي " خبرُه : إمَّا مِنْ غيرِ اعتقادِ حذفٍ ، أو على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ ، أي : مَثَلُ داعي الذينَ ، أو من الثاني : أي : كمثلِ بهائِمِ الذي ، أو على حَذْفَيْنِ : حَذَفَ من الأول ما أثبتَ نظيرَه في الثاني ، ومِن الثاني ما أثبتَ نظيرَه في الأولِ كما تقدَّم تحريرُ ذلك كله . وهذا نهايةٌ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ .

والنَّعِيقُ : دعاءُ الراعي وتصويتُهُ بالغنم ، قال :

فانْعَقْ بضَأْنِك يا جريرُ فإنَّما *** مَنَّتْكَ نفسُك في الخَلاءِ ضَلالا

يقال : نَعَقَ بفتح العين ينعقِ بكسرها ، والمصدرُ : النَّعيقُ والنُّعاقُ والنَّعْقُ ، وأمّا " نَعَقَ الغرابُ " فبالمعجمة ، وقيل : بالمهملةِ أيضاً في الغرابِ وهو غريبٌ/ .

قوله : { إِلاَّ دُعَآءً } هذا استثناءٌ مفرَّغٌ لأنَّ قبلَهُ " يَسْمَعُ " ولم يأخُذْ مفعولَه . وزعم بعضُهم أنَّ " إلاَّ " زائدةٌ ، فليسَ من الاستثناء في شيء . وهذا قولٌ مردودٌ ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادةِ " إلاَّ " في قولِهِ :

حَراجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلا مُنَاخَةً *** على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلدا قَفْرَا

فقد ردَّ الناسُ عليه ، ولم يقبلوا قوله . وفي البيت كلامٌ تقدَّم .

وأوردَ بعضهم هنا سؤالاً معنوياً : وهو قولهُ : { لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } ليس المسموعُ إلا الدعاءَ والنداءَ فكيف ذَمَّهم بأنهم لا يَسْمَعُون إلا الدعاء ، وكأنَّه قيل : لا يَسْمَعُون إلا المسموعَ ، وهذا لا يَجُوز ؟ فالجوابُ أنَّ في الكلام إيجازاً ، وإنما المعنى : لا تَفْهَمُ معانيَ ما يقال لهم ، كما لا تُمَيِّز البهائِمُ بين معاني الألفاظِ التي يُصَوَّتُ بها ، وإنما تَفْهَمُ شيئاً يسيراً قد أَدْرَكَتْه بطولِ الممارسةِ وكثرةِ المعاودةِ ، فكأنه قيل : ليسَ لهم إلا سماعُ النداء دون إدراكِ المعاني والأغراضِ . وهذا السؤالُ من أصلِهِ ليس بشيءٍ ، ولولا أنَّ الشيخَ ذكره لم أذكرْهُ .

وهنا سؤالٌ آخرُ : وهو هل هذا من بابِ التكرارِ لمَّا ختلفَ اللفظُ ، فإنَّ الدعاءَ والنداءَ واحدةٌ ؟ والجوابُ أنه ليس كذلك ، فإنَّ الدعاءَ طلبُ الفعلِ والنداءَ إجابةُ الصوتِ . ذكر ذلك عليُّ بن عيسى .