محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

ثم ضرب تعالى للكافرين مثلا فظيعا كما قال سبحانه : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } {[937]} فقال : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون 171 } .

{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } أي : يصيح ، يقال : نعق الراعي بغنمه : صاح بها وزجرها . وقوله تعالى : { بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } أي : بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها ، وزجر لها ولا تفقه شيئا آخر ، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون . وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد . فكأن وفاء اللفظ : مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم . وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب . ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين ، يقتصر على تأويله بمثل واحد ، فيقدر في الكلام : ومثل داعي الذين كفروا ، أشار لذلك الحراليّ فيما نقله البقاعيّ عنه .

وقال الفرّاء{[937]} : أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا ، ثم شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم . والمعنى والله أعلم مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت ، فأضاف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعي . قال : ومثله في الكلام ( فلان يخافك كخوف الأسد ) المعنى : كخوفه الأسد ، لأن الأسد معروف أنه المَخُوف .

وقيل : أريد تشبيه حال الكافر في دعائه الصنم بحال من ينعق بما لا يسمعه . والمعنى : مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء ، غير أنه هو في دعاء ونداء . وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء .

/ وقال ابن القيّم في ( أعلام الموقعين ) : ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب ، وأن تجعله من التشبيه المفرق . فإن جعلته من المركب : كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء . وإن جعلته من التشبيه المفرق : فالذين كفروا بمنزلة البهائم ، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها ، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق ، وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق . والله أعلم .

قال الرازيّ : اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى إتباع ما أنزل الله : تركوا النظر والتدبّر ، وأخلدوا إلى التقليد ، وقالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ضرب لهم هذا المثل تنبيها للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه : بسبب ترك الإصغاء ، وقلة الاهتمام بالدين ، فصيّرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام . . ! ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار ، ويحقّر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك ، فيكون كسراً لقلبه ، تضييقاً لصدره حيث صيّره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد . ثم زاد في تبكيتهم فقال : { صم بكم عمي فهم لا يعقلون } فهم بمنزلة الصم : في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه ، وبمنزلة البكم : في أنهم لم يستجيبوا لما دُعوا إليه ، وبمنزلة العمي : من حيث أنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها . ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة ، فلما أعرضوا عنها ، فقدوا العقل المكتسب . ولهذا قيل : من فقد حسًّا فقد علماً . . !


[937]:انظر كتاب معاني القران للإمام أبي زكرياء يحيى بن زياد الفرّاء. الجزء الأول صفحة 99.