البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

النعيق : دعاء الراعي وتصويته بالغنم ، قال الشاعر :

فانعق بضأنك يا جرير فإنما *** منتك نفسك في الخلاء ضلالاً

ويقال : نعق المؤذن ، ويقال : نعق يتعق نعيقاً ونعاقاً ونعقاً ، وأما نغق الغراب ، فبالغين المعجمة .

وقيل أيضاً : يقال بالمهملة في الغراب .

النداء : مصدر نادى ، كالقتال مصدر قاتل ، وهو بكسر النون ، وقد يضم .

قيل : وهو مرادف للدعاء ، وقيل : مختص بالجهر ، وقيل : بالبعد ، وقيل : بغير المعين .

ويقال : فلان أندى صوتاً من فلان ، أي أقوى وأشد وأبعد مذهباً .

{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } : لما ذكر تعالى أن هؤلاء الكفار ، إذا أمروا باتباع ما أنزل الله ، أعرضوا عن ذلك ورجعوا إلى ما ألفوه من اتباع الباطل الذي نشأوا عليه ووجدوا عليه آباءهم ، ولم يتدبروا ما يقال لهم ، وصموا عن سماع الحق ، وخرسوا عن النطق به ، وعموا عن إبصار النور الساطع النبوي .

ذكر هذا التشبيه العجيب في هذه الآية منبهاً على حالة الكافر في تقليده أباه ومحقراً نفسه ، إذ صار هو في رتبة البهيمة ، أو في رتبة داعيها ، على الخلاف الذي سيأتي في هذا التشبيه .

وهذه الآية لا بد في فهم معناها من تقدير محذوف .

واختلفوا ، فمنهم من قال : المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق .

ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به .

فعلى أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق ، قيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم وعقلهم ، كمثل الرّعاة يكلمون البهم ، والبهم لا تعقل شيئاً .

وقيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم ، كمثل الناعق بغنمه ، فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء ونداء ، وكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلا العناء .

قال الزمخشري : وقد ذكر هذا القول ، إلا أن قوله : { إلاّ دعاء ونداء } لا يساعد عليه ، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً .

انتهى كلامه .

ولحظ الزمخشري في هذا القول تمام التشبيه من كلّ جهة ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاء ونداء ، فكذلك مدعو الكافر من الصنم ، والصنم لا يسمع ، فضعف عنده هذا القول .

ونحن نقول : التشبيه وقع في مطلق الدعاء ، لا في خصوصيات المدعو ، فشبه الكافر في دعائه الصنم بالناعق بالبهيمة ، لا في خصوصيات المنعوق به .

وقيل في هذا القول ، أعني قول من قال التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأصنامهم أن الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم من الضأن أو غيرها ، وإنما المراد به الصائح في جوف الجبال ، فيجيبه منها صوت يقال له الصدا ، يجيبه ولا ينفعه .

فالمعنى : بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه ونداءه ، قاله ابن زيد .

فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميراً يعود على ما ، وهو المنعوق به .

وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميراً عائداً على الذي ينعق ، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفاً لفهم المعنى تقديره : بما لا يسمع منه ، وليس فيه شروط جواز الحذف ، لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره .

واختلف ما يتعلقان به ، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق ، والثاني من تعلق بيسمع .

وقد جاء في كلامهم مثل هذا ، قال : وقيل المراد بالذين كفروا : المتبوعون لا التابعون ، ومعناه : مثل الذين كفروا في دعائهم أتباعهم ، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلا الخيبة والخسران ، كمثل الناعق بالغنم .

وأمّا القول على أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، وهو البهائم التي لا تعقل مثل : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والحمير ، وهو قول ابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة والحسن والربيع والسدي .

وأكثر المفسرين اختلفوا في تقديره مصحح هذا التشبيه ، فقيل التقدير : ومثل الذين كفروا في دعاتهم إلى الله تعالى وعدم سماعهم إياه ، كمثل بهائم الذي ينعق ، فهو على حذف قيد في الأول ، وحذف مضاف من الثاني .

وقيل التقدير : ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم عن الله وعن رسوله ، كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي غير الصوت .

فيراد بالذي ينعق ، الذي ينعق به ، فيكون هذا من المقلوب عندهم .

قالوا : كما تقول : دخل الخاتم في يدي والخف في رجلي .

وكقولهم : عرض الحوض على الناقة ، وأوردوا مما ذكروا أنه مقلوب جملة .

وذهب إلى هذا التفسير أبو عبيدة والفراء وجماعة ، وينبغي أن ينزه القرآن عنه ، لأن الصحيح أن القلب لا يكون إلا في الشعر ، أو إن جاء في الكلام ، فهو من القلة بحيث لا يقاس عليه .

وأما القول على أن المثل مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق ، فيكون قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا } هو على تقدير : ومثل داعي الذين كفروا .

فهو على حذف مضاف ، فلا يكون من تشبيه الكافر بالناعق ، ولا بالمنعوق ، وإنما يكون من باب تشبيه داعي الكافر في دعائه إياه بالناعق بالبهائم ، في كون الكافر لا يفهم مما يخاطبه به داعيه إلا دويّ الصوت دون إلقاء ذهن ولا فكر ، فهو شبيه بالناعق بالبهيمة التي لا تسمع من الناعق بها إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم شيئاً آخر .

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بما لا يسمع الأصم الأصلخ ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والصوت لا غير ، من غير فهم للحروف .

وأما على القول بأن المثل مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به ، فهو الذي اختاره سيبويه في الآية .

إن المعنى : مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا ، كمثل الناعق والمنعوق به .

وقد اختلف في كلام سيبويه فقيل : هو تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وقيل : هو تفسير إعراب ، وهو أن في الكلام حذفين : حذف من الأول ، وهو حذف داعيهم ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذف من الثاني ، وهو حذف المنعوق به ، وقد أثبت نظيره في الأول ؛ فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه ، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتاً ، ولا يعرفون ما وراءها .

وفي هذا الوجه حذف كثير ، إذ فيه حذف معطوفين ، إذ التقدير الصناعي : ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق والمنعوق به .

وذهب إلى تقرير هذا الوجه جماعة من أصحابنا ، منهم الأستاذ أبو بكر بن طاهر وتلميذه أبو الحسن بن خروف ، والأستاذ أبو علي الشلوبين وقالوا : إن العرب تستحسنه ، وإنه من بديع كلامها ، ومثاله قوله تعالى : { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء } التقدير : وأدخل يدك في جيبك تدخل ، وأخرجها تخرج بيضاء ، فحذف تدخل لدلالة تخرج ، وحذف وأخرجها لدلالة وأدخل ، قالوا : ومثل ذلك قول الشاعر :

وإني لتعروني لذكراك فترة***كما انتفض العصفور بلله القطر

لم يرد أن يشبه فترته بانتفاض العصفور حين يبله القطر ، لكونهما حركة وسكوناً ، فهما ضدان ، ولكن تقديره : إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر ، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض ، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه .

وهذه الأقوال كلها في التشبيه ، إنما هي على مراعاة تشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به .

وأمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه الجملة بالجملة ، فلا يراعى في ذلك مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر فيه إلى المعنى .

وعلى هذا الضرب من التشبيه حمل الآية أبو القاسم الراغب ، قال الراغب : فلما شبه قصة الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق ، قدم ذكر الناعق ليبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به .

وعلى هذا { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } وقوله تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } فهذه تسعة أقوال في تفسير هذه الآية .

وقد بقي شيء من الكلام عليها ، فنقول : ومثل الذين مبتدأ ، خبره كمثل ، والكاف للتشبيه .

شبه الصفة بالصفة ، أي صفتهم كصفة الذي ينعق .

ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة ، فقوله ليس بشيء ، لأن الصفة ليست عين الصفة ، فلا بد من الكاف التي تعطى التشبيه .

بل لو جاء دون الكاف لكنا نعتقد حذفها ، لأن به تصحيح المعنى .

والذي ينعق ، لا يراد به مفرد ، بل المراد الجنس .

وتقدّم أن المراد : كالناعق بالبهائم ، أو كالمصوت في الجبال الذي لا يجيبه منها إلا الصدا ، أو كالمصوت بالأصم الأصلخ ، أو كالمنعوق به ، فيكون من باب القلب .

وقيل : كالمصوت بشيء بعيد منه ، فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للمصوت من ذلك إلا النداء الذي ينصبه ويتعبه .

وقيل : وقع التشبيه بالراعي للضأن ، لأنها من أبله الحيوان ، فهي تحمق راعيها .

وفي المثل : أحمق من راعي ضأن ثمانين .

وقال دريد بن الصمة لمالك بن عوف ، يوم هوازن : راعي ضأن والله ، لأنه لما جاء إلى قتال النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء ، فلما لقيه دريد قال : أراك سقت المال والنساء ؟ فقال : يقاتلون عن أموالهم وحريمهم .

فقال له دريد : أمنت أن تكون عليك راعي ضان والله لأصحبتك ، وقال الشاعر :

أصبحت هزأ لراعي الضان يهزأ بي*** ماذا يريبك مني راعي الضان

{ إلاّ دعاء ونداء } : هذا استثناء مفرّغ ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله .

وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغاً وأن إلاّ زائدة ، والدعاء والنداء منفي سماعهما ، والتقدير : بما لا يسمع دعاء ولا نداء ، وهذا ضعيف ، لأن القول بزيادة إلا ، قول بلا دليل .

وقد ذهب الأصمعي ، رحمه الله ، إلى ذلك في قوله :

حراجيح ما تنفك إلا مناخة*** على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا

وضعف قوله في ذلك ، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به ، فنثبت لها الزيادة ، وأورد بعضهم هنا سؤالاً فقال : فإن قيل قوله لا يسمع إلا دعاء ونداء ، ليس المسموع إلا الدعاء والنداء ، فكيف ذمهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء ؟ وكأنه قيل : لا يسمعون إلا المسموع ، وهذا لا يجوز .

فالجواب : أن في الكلام إيجاراً ، وإنما المعنى : لا يفهمون معاني ما يقال لهم ، كما لا يميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها ، وإنما يفهم شيئاً يسيراً ، وقد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة ، فكأنه قيل : ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأعراض .

انتهى كلامه .

وقال علي بن عيسى : إنما ثنى فقال : { إلاّ دعاء ونداء } ، لأن الدعاء طلب الفعل ، والنداء إجابة الصوت .

{ صم بكم عمي } : تقدم الكلام على هذه الكلم .

{ فهم لا يعقلون } : لما تقرر فقدهم لمعاني هذه الحواس ، قضى بأنهم لا يعقلون .

كما قال أبو المعالي وغيره : العقل علوم ضرورية يعطيها هذه الحواس ، إذ لا بد في كسبها من الحواس . انتهى .

قيل : والمراد العقل الاكتسابي ، لأن العقل المطبوع كان حاصلاً لهم ، والعقل عقلان : مطبوع ومكسوب .

ولما كان الطريق لاكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث ، كان إعراضهم عنها فقداً للعقل المكتسب ، ولهذا قيل : من فقد حساً فقد فَقَد عقلاً .

/خ176