فلما جاءهم عيسى عليه السلام بهذا { اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ } المتحزبون على التكذيب { مِنْ بَيْنِهِمْ } كل قال بعيسى عليه السلام مقالة باطلة ، ورد ما جاء به ، إلا من هدى الله من المؤمنين ، الذين شهدوا له بالرسالة ، وصدقوا بكل ما جاء به ، وقالوا : إنه عبد الله ورسوله .
{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من عذاب يوم أليم } أي : ما أشد حزن الظالمين وما أعظم خسارهم في ذلك اليوم " .
ولكن الذين جاءوا من بعده اختلفوا أحزاباً كما كان الذين من قبله مختلفين أحزاباً . اختلفوا ظالمين لا حجة لهم ولا شبهة : ( فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ) . .
لقد كانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ؛ وكانوا ينتظرونه ليخلصهم مما كانوا فيه من الذل تحت حكم الرومان ؛ وقد طال انتظارهم له ، فلما جاءهم نكروه وشاقوه ، وهموا أن يصلبوه !
ولقد جاء المسيح فوجدهم شيعاً ونحلا كثيرة ، أهمها أربع فرق أو طوائف .
طائفة الصدوقيين نسبة إلى " صدوق " وإليه وإلى أسرته ولاية الكهانة من عهد داود وسليمان . وحسب الشريعة لا بد أن يرجع نسبه إلى هارون أخي موسى . فقد كانت ذريته هي القائمة على الهيكل . وكانوا بحكم وظيفتهم واحترافهم متشددين في شكليات العبادة وطقوسها ، ينكرون " البدع " في الوقت الذي يترخصون في حياتهم الشخصية ويستمتعون بملاذ الحياة ؛ ولا يعترفون بان هناك قيامة !
وطائفة الفريسيين ، وكانوا على شقاق مع الصدوقيين . ينكرون عليهم تشددهم في الطقوس والشكليات ، وجحدهم للبعث والحساب . والسمة الغالبة على الفريسيين هي الزهد والتصوف وإن كان في بعضهم اعتزاز وتعال بالعلم والمعرفة . وكان المسيح - عليه السلام - ينكر عليهم هذه الخيلاء وشقشقة اللسان !
وطائفة السامريين ، وكانوا خليطاً من اليهود والأشوريين ، وتدين بالكتب الخمسة في العهد القديم المعروفة بالكتب الموسوية ، وتنفي ما عداها مما أضيف إلى هذه الكتب في العهود المتأخرة ، مما يعتقد غيرهم بقداسته .
وطائفة الآسين أو الأسينيين . وكانوا متأثرين ببعض المذاهب الفلسفية ، وكانوا يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود ، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف ، كما يأخذون جماعتهم بالشدة في التنظيم .
وهناك غير هذه الطوائف نحل شتى فردية ، وبلبلة في الاعتقاد والتقاليد بين بني إسرائيل ، الراضخين لضغط الإمبراطورية الرومانية المستذلين المكبوتين ، الذين ينتظرون الخلاص على يد المخلص المنتظر من الجميع .
فلما أن جاء المسيح - عليه السلام - بالتوحيد الذي أعلنه : ( إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه ) . وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي والعناية بالقلب البشري قبل الشكليات والطقوس ، حاربه المحترفون الذين يقومون على مجرد الأشكال والطقوس .
ومما يؤثر عنه - عليه السلام - في هذا قوله عن هؤلاء : " إنهم يحزمون الأوقار ، ويسومون الناس أن يحملوها على عواتقهم ، ولا يمدون إليها إصبعاً يزحزحونها ، وإنما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم ! يعرضون عصائبهم ، ويطيلون أهداب ثيابهم ، ويستأثرون بالمتكأ الأول في الولائم ، والمجالس الأولى في المجامع ، ويبتغون التحيات في الأسواق . وأن يقال لهم : سيدي . سيدي . حيث يذهبون ! " . .
أو يخاطب هؤلاء فيقول : " أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل . . إنكم تنقون ظاهر الكأس والصحفة ، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة . . ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون . إنكم كالقبور المبيضة . خارجها طلاء جميل وداخلها عظام نخرة " . .
وإن الإنسان - وهو يقرأ هذه الكلمات المأثورة عن المسيح - عليه السلام - وغيرها في بابها - ليكاد يتصور رجال الدين المحترفين في زماننا هذا . فهو طابع واحد مكرر . لهؤلاء الرسميين المحترفين من رجال الدين ، الذين يراهم الناس في كل حين !
ثم ذهب المسيح عليه السلام إلى ربه ، فاختلف أتباعه من بعده . اختلفوا شيعاً وأحزاباً . بعضها يؤلهه . وبعضها ينسب لله سبحانه بنوته . وبعضها يجعل الله ثالث ثلاثة أحدها المسيح ابن مريم . وضاعت كلمة التوحيد الخالصة التي جاء بها عيسى عليه السلام . وضاعت دعوته الناس ليلجأوا إلى ربهم ويعبدوه مخلصين له الدين .
( فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ) . .
ثم جاء مشركو العرب يحاجون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في عيسى - عليه السلام - بما فعلته الأحزاب المختلفة من بعده ، وما أحدثته حوله من أساطير !
وقوله : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } أي : اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه ، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله - وهو الحق - ومنهم من يدعي أنه ولد الله ، ومنهم من يقول : إنه الله - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا - ولهذا قال : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }
{ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ }
و : { الأحزاب } المذكورون : قال جمهور المفسرين أراد : اختلف بنو إسرائيل وتحزبوا ، فمنهم من آمن به ، وهو قليل ، وكفر الغير ، وهذا إذا كان معهم حاضراً . وقال قتادة : { الأحزاب } هم الأربعة الذين كان الرأي والمناظرة صرفت إليهم في أمر عيسى عليه السلام . وقال ابن حبيب وغيره : { الأحزاب } النصارى افترقت مذاهبهم فيه بعد رفعه عليه السلام ، فقالت فرقة : هو الله ، وهم اليعقوبية قال الله عز وجل : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة : 17 ] . وقالت فرقة : هو ابن الله ، وهم النسطورية قال الله تعالى فيهم : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وقالت فرقة : هو ثالث ثلاثة ، وهم الملكانية قال الله تعالى فيهم : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] .
وقوله تعالى : { من بينهم } بمعنى من تلقائهم ومن أنفسهم ثار شرهم ، ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاختلف الأحزاب من بينهم} في الدين.
الأحزاب هم: النسطورية، والماريعقوبية، والملكانية، تحازبوا من بينهم في عيسى، عليه السلام، فقالت النسطورية: عيسى ابن الله، وقالت الماريعقوبية: إن الله هو المسيح ابن مريم، وقالت الملكانية: إن الله ثالث ثلاثة.
{فويل للذين ظلموا}، يعني النصارى الذين قالوا في عيسى ما قالوا.
{من عذاب يوم أليم}، يعني يوم القيامة، وإنما سماه أليما لشدته...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنيين بالأحزاب، الذين ذكرهم الله في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: عنى بذلك: الجماعة التي تناظرت في أمر عيسى، واختلفت فيه... وقال آخرون: بل هم اليهود والنصارى...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: معنى ذلك: فاختلف الفِرَق المختلفون في عيسى بن مريم من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته، وهم اليهود والنصارى، ومن اختلف فيه من النصارى، لأن جميعهم كانوا أحزابا مُتَبَسِّلين، مختلفي الأهواء مع بيانه لهم أمر نفسه، وقوله لهم:"إنّ الله هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فاعْبَدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ".
وقوله: "فَوَيْلٌ لِلّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَاب يَوْم ألِيمٍ "يقول تعالى ذكره فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله، الذين قالوا في عيسى بن مريم بخلاف ما وصف عيسى به نفسه في هذه الآية "مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ ألِيمٍ "يقول: من عذاب يوم مؤلم، ووصف اليوم بالإيلام، إذ كان العذاب الذي يؤلمهم فيه، وذلك يوم القيامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي اختلف الأحزاب من اختراع كان منهم في ما بينهم، أو كلام نحوه. ولذلك كان باختراع من ذات أنفسهم، لا أن كان ذلك سماعا من الرسل عليهم السلام، ولذلك نهى هذه الأمة عن الاختلاف والتفرّق حين قال: {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران: 105].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{من بينهم} بمعنى من تلقائهم ومن أنفسهم ثار شرهم، ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الطريق الواضح القديم موجباً للاجتماع عليه، والوفاق عند سلوكه، بين أنهم سببوا عنه بهذا الوعظ غير ما يليق بهما بقوله: {فاختلف} وبين أنهم أكثروا الاختلاف بقوله: {الأحزاب} أي أنهم لم يكونوا فرقتين فقط، بل فرقاً كثيرة.
ولما كانت العادة أن يكون الخلاف بين أمتين وقبيلتين ونحو ذلك، وكان اختلاف الفرقة الواحدة عجباً، بين أنهم من أهل القسم فقال: {من بينهم} أي اختلافاً ناشئاً ابتدأ من بين بني إسرائيل الذين جعلناهم مثلاً لهم: وقال لهم: قد جئتكم بالحكمة فسبب عن اختلافهم قوله: {فويل} وكان أن يقال: لهم، ولكنه ذكر الوصف الموجب للويل تعميماً وتعليقاً للحكم به.
ولما كان في سياق الحكمة، وهي وضع الشيء في أتقن مواضعه، جعل الوصف الظلم الذي أدى إليه الاختلاف فقال: {للذين ظلموا} أي وضعوا الشيء في غير موضعه مضادة لما أتاهم صلى الله عليه وسلم به من الحكمة.
{من عذاب يوم أليم} أي مؤلم، وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بعذابه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{من} يجوز أن تكون مزيدة لتأكيد مدلول {بينهم} أي اختلفوا اختلاف أمة واحدة... ويجوز أن تكون {مِن} في قوله: {من بينهم} ابتدائية متعلقة ب (اختلف) أي نشأ الاختلاف من بينهم دون أن يُدخله عليهم غيرُهم، أي كان دينهم سالماً فنشأ فيهم الاختلاف...