قوله تعالى : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم } بالعلم . { أينما كنتم والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور . }
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بجلاله ، فوق جميع خلقه ، { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } من حب وحيوان ومطر ، وغير ذلك . { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وشجر وحيوان وغير ذلك ، { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من الملائكة والأقدار والأرزاق .
{ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة والأرواح ، والأدعية والأعمال ، وغير ذلك . { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } كقوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }
وهذه المعية ، معية العلم والاطلاع ، ولهذا توعد ووعد على المجازاة بالأعمال بقوله : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال ، وما صدرت عنه تلك الأعمال ، من بر وفجور ، فمجازيكم عليها ، وحافظها عليكم .
وبعد إطلاق تلك الحقيقة الكبرى جعل يذكر كيف انبثقت منها حقائق الوجود الأخرى :
( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وهو معكم أينما كنتم . والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض ، وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور . . )
حقيقة خلق السماوات والأرض . وحقيقة الاستواء على العرش والهيمنة على الخلق . وحقيقة العلم بأشياء بعينها من هذا الخلق . وحقيقة الوجود مع كل أحد أينما وجد . وحقيقة رجعة الأمور إليه وحده . وحقيقة تصرفه اللطيف في كيان الوجود ، وعلمه الخفي بذات الصدور . .
وكلها حقائق منبثقة عن تلك الحقيقة الأولى . . ولكن عرضها في هذا المجال الكوني يجعل لها في القلب البشري إيقاعات وظلالا . . والسماوات والأرض تواجه هذا القلب وتروعه بضخامتها وجلالها ، وتناسقها وجمالها ، كما تواجهه وتروعه بدقة نظامها وانضباط حركاتها ، واطراد ظواهرها . ثم إنها خلائق من خلق الله كالقلب البشري . فله بها صلة الأسرة وأنس القرابة . وهي توقع على أوتاره إيقاعات لدنية حين يتوجه إليها ، ويسمع لها ، ويعاطفها ! وهي تقول له : إن الذي خلقها هو خلقه . وهي تسبح لخالقها فليسبح لخالقه ! كما تقول له : إنها تستمد حقيقة وجودها من وجود خالقها وأنه هو كذلك . فليس هنالك إذن إلا هذه الحقيقة تستحق الاحتفال بها !
والأيام الستة لا يعلم حقيقتها إلا الله . فأيامنا هذه ليست سوى ظلال ناشئة عن حركة الأرض حول نفسها أمام الشمس . وجدت بعد خلق الأرض والشمس فليست هي الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض . فنترك علمها لله يطلعنا عليه إن أراد .
وكذلك العرش . فنحن نؤمن به كما ذكره ولا نعلم حقيقته . أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول : إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق . استنادا إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله - سبحانه - لا تتغير عليه الأحوال . فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش ، ثم تتبعها حالة استواء . والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسر قوله تعالى : ( ثم استوى ) . . والأولى أن نقول : إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا . والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفا لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا . إنما يستند إلى مقررات القرآن ذاته ، وإلى التصور الذي يوحيه عن ذات الله سبحانه وصفاته .
ومع الخلق والهيمنة العلم الشامل اللطيف ، يصور النص القرآني مجاله تصويرا عجيبا يشغل القلب بتتبعه في هذا المجال الوسيع ، وبتصوره في حركة دائمة لا تفتر . وهذا أمر غير مجرد ذكر العلم وحقيقته المجردة . أمر مؤثر موح يملأ جوانب النفس ، ويشغل خوالج القلب ، وتترامى به سبحات التصور ووثبات الخيال :
( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . .
وفي كل لحظة يلج في الأرض ما لا عداد له ولا حصر من شتى أنواع الأحياء والأشياء ؛ ويخرج منها ما لا عداد ولا حصر من خلائق لا يعلمها إلا الله . وفي كل لحظة ينزل من السماء من الأمطار والأشعة والنيازك والشهب ، والملائكة والأقدار والأسرار ؛ ويعرج فيها كذلك من المنظور والمستور ما لا يحصيه إلا الله . . والنص القصير يشير إلى هذه الحركة الدائبة التي لا تنقطع ، وإلى هذه الأحداث الضخام التي لا تحصى ؛ ويدع القلب البشري في تلفت دائم إلى ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وفي تصور يقظ لعلم الله الشامل وهو يتبع هذه الحركات والأحداث ، في مساربها ومعارجها .
والقلب في تلفته ذاك وفي يقظته هذه يعيش مع الله ، ويسيح في ملكوته بينما هو ثاو في مكانه ؛ ويسلك فجاج الكون ويجوب أقطار الوجود في حساسية وفي شفافية ، وفي رعشة من الروعة والانفعال .
وبينما القلب في تلفته ذاك في الأرض والسماء ، إذا القرآن يرده إلى ذاته ، ويلمسه في صميمه . وإذا هو يجد الله معه ، ناظرا إليه ، مطلعا عليه ، بصيرا بعمله ، قريبا جد قريب :
( وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير . . )
وهي كلمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز . فالله - سبحانه - مع كل أحد ، ومع كل شيء ، في كل وقت ، وفي كل مكان . مطلع على ما يعمل بصير بالعباد . وهي حقيقة هائلة حين يتمثلها القلب . حقيقة مذهلة من جانب ، ومؤنسة من جانب . مذهلة بروعة الجلال . ومؤنسة بظلال القربى . وهي كفيلة وحدها حين يحسها القلب البشري على حقيقتها أن ترفعه وتطهره ، وتدعه مشغولا بها عن كل أعراض الأرض ؛ كما تدعه في حذر دائم وخشية دائمة ، مع الحياة والتحرج من كل دنس ومن كل إسفاف .
يخبر تعالى عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم أخبر باستوائه على العرش بعد خلقهن ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة " الأعراف {[28221]} بما أغنى عن إعادته هاهنا .
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ } أي : يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من زرع ونَبات وثمار ، كما قال : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
وقوله : { وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ } أي : من الأمطار ، والثلوج والبرَد ، والأقدار والأحكام مع الملائكة الكرام ، وقد تقدم في سورة " البقرة " أنه ما ينزل من قطرة من السماء إلا ومعها ملك يُقرّرها في المكان الذي يأمر الله به حيث يشاء تعالى .
وقوله : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي : من الملائكة والأعمال ، كما جاء في الصحيح : " يُرْفَعُ إليه عَمَلُ الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل " {[28222]}
وقوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : رقيب عليكم ، شهيد على أعمالكم حيث أنتم ، وأين كنتم ، من بر أو بحر ، في ليل أو نهار ، في البيوت أو القفار ، الجميع في علمه على السواء ، وتحت بصره وسمعه ، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم ، ويعلم سركم ونجواكم ، كما قال : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ هود : 5 ] . وقال { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [ الرعد : 10 ] ، فلا إله غيره ولا رب سواه . وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال لجبريل ، لما سأله عن الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
وروى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي من حديث نصر بن خزيمة بن جنادة بن محفوظ بن علقمة ، حدثني أبي ، عن نصر بن علقمة ، عن أخيه ، عن عبد الرحمن بن عائذ قال : قال عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : زودني كلمة أعيش بها فقال : " اسْتَحِ الله كما تستحي رجلا من صَالِح عشيرتك لا يفارقك " {[28223]}
هذا حديث غريب ، وروى أبو نعيم من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري مرفوعًا : " ثلاث من فَعَلَهُنَّ فقد طَعِمَ الإيمان : من عبد الله وحده ، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه في كل عام ، ولم يعط الهَرَمة ولا الدَرنة ، ولا الشَّرط اللئيمة ولا المريضة ولكن من أوسط أموالكم . وزكى نَفْسَه " وقال رجل : يا رسول الله ، ما تزكية المرء نفسه ؟ فقال : " يعلم أن الله معه حيث كان " {[28224]}
وقال نُعَيْم بن حَمّاد ، رحمه الله : حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي ، عن محمد بن مهاجر ، عن عُرْوَةَ بن رُوَيم ، عن عبد الرحمن بن غَنم ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت " . غريب . {[28225]}
وكان الإمام أحمد ينشد هذين البيتين :
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ *** خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ : عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً *** وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
{ هُوَ الذى خَلَقَ السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش } .
موقع هذه الجملة استنئاف كموقع جملة { هو الأول والآخر } [ الحديد : 3 ] الآية ، فهذا استئناف ثان مفيد الاستدلال على انفراده تعالى بالإِلهية ليقلعوا عن الإِشراك به .
ويفيد أيضاً بياناً لمضمون جملة { له ملك السموات والأرض } [ الحديد : 5 ] وجملة { وهو على كل شيء قدير } [ الحديد : 2 ] ، فإن الذي خلق السماوات والأرض قادر على عظيم الإِبداع .
والاستواءُ على العرش تمثيل للمُلك الذي في قوله : { له ملك السموات والأرض } [ الحديد : 2 ]
وهذا معنى اسمه تعالى : « الخالق » ، وتقدم قريب من هذه الآية في أوائل سورة الأعراف ( 11 ) .
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الارض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا }
استئناف لتقرير عموم علمه تعالى بكل شيء فكان بيانَ جملة { وهو على كل شيء قدير } [ الحديد : 2 ] وجملة { وهو بكل شيء عليم } [ الحديد : 3 ] جارياً على طريقة النشر لللف على الترتيب ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة سبأ . فانظر ذلك .
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } .
عطف معنى خاص على معنى شمله وغيرَه لقصد الاهتمام بالمعطوف .
والمعيّة تمثيل كنائي عن العلم بجميع أحوالهم .
و { أين ما } ظرف مركب من ( أين ) وهي اسم للمكان ، و ( ما ) الزائدة للدلالة على تعميم الأمكنة .
وجملة { والله بما تعملون بصير } تكملة لمضمون { وهو معكم أين ما كنتم } ، وكان حقها أن لا تعطف وإنما عطفت ترجيحاً لجانب ما تحتوي عليه من الخبر عن هذه الصفة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"هُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَواتِ والأرْضَ فِي سِتّةِ أيّامِ "يقول تعالى ذكره: هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبرهنّ وما فيهنّ، ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه وعلا.
وقوله: "يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها": يقول تعالى ذكره مخبرا عن صفته، وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأرْضِ من خلقه. يعني بقوله: يَلِجُ: يدخل،" وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السّماءِ" إلى الأرض من شيء قطّ، "وَما يَعْرُجُ فِيها" فيصعد إليها من الأرض.
"وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنْتُمْ" يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سمواته السبع. "وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير" يقول: والله بأعمالكم التي تعملونها من حسن وسيئ، وطاعة ومعصية، ذو بصر، وهو لها محص، ليجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته "يَوْمَ تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: {ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} يحتمل وجهين:
أحدهما: أي كثرة ذلك وازدحامه لا يلتبس عليه، ولا يستر عنه شيء.
والثاني: يخبر أن السماء والأرض مع ثقلهما وكثافتهما لا يستران، ولا يحجبان عليه الوالج فيهما والخارج منهما والنازل منهما، ولا يحيطان بذلك، ليعلم أن لا شيء يحجب عنه، وألا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء، والله أعلم. وقوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم}... يتوجه المعنى فيه لاختلاف الأحوال؛ يقول: إن كنتم محبين خاضعين مطيعين فهو معكم بالنصر والمعونة على أعدائكم، وإن كنتم معرضين عنه معاندين فهو معكم بالسلطان عليكم والانتقام منكم، والله أعلم.
وقوله تعالى: {والله بما تعملون بصير} قال أهل التأويل: إن علمه وسلطانه وقدرته معكم أينما كنتم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... والاستواء على العرش هو بالغلبة والقهر المستمرين بالقدرة، وليس في ذلك ما في قهر العباد من المحاولة والتعب.
وقوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} معناه بقدرته وعلمه وإحاطته. وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها...
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}...والمقصود منه دلائل القدرة... {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها}...والمقصود منه كمال العلم...
اعلم أن في هذه الآيات ترتيبا عجيبا، وذلك لأنه بين قوله: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} كونه إلها لجميع الممكنات والكائنات، ثم بين كونه إلها للعرش والسماوات والأرضين. ثم بين بقوله: {وهو معكم أينما كنتم} معينه لنا بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم وهو كونه عالما بظواهرنا وبواطننا...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
{وهو معكم أينما كنتم} أي بالعلم والقدرة فليس ينفك أحد من تعليق علم الله تعالى وقدرته أينما كان من أرض أو سماء براً وبحراً وقيل هو معكم بالحفظ والحراسة. وقوله تعالى: {والله بما تعملون بصير} يدل على صحة القول الأول.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{هو} أي وحده {الذي خلق السماوات} وجمعها لعلم العرب بتعددها {والأرض} أي الجنس الشامل للكل، أفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعددها {في ستة أيام} سناً للتأني وتقريراً للأيام التي أوترها سابعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل خلقه باسمه الجمعة على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع على أنه نهاية المخلوقات -انتهى. ولما كان تمكن الملك من سرير الملك كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه، وكان ذلك هو روح الملك، دل عليه منبهاً على عظمته بأداة التراخي فقال: {ثم استوى} أي أوجد السواء وهو العدل إيجاد من هو شديد العناية {على العرش} المحيط بجميع الموجودات بالتدبير المحكم للعرش وما دونه ومن دونه ليتصور للعباد أن العرش منشأ التدبير، ومظهر التقدير، كما يقال في ملوكنا: جلس فلان على سرير الملك، بمعنى أنه انفرد بالتدبير، وقد لا يكون هناك سرير فضلاً عن جلوس. ولما كان المراد بالاستواء الانفراد بالتدبير، وكان التدبير لا يصح إلا بالعلم والقدرة، كشفه بقوله دالاًّ على أن علمه بالخفايا كعلمه بالجلايا: {يعلم ما يلج} أي يدخل دخولاً يغيب به {في الأرض}...وإن كان ذلك بعيداً من العرش، فإن الأماكن كلها بالنسبة إليه على حد سواء في القرب والبعد {وما يخرج منها} كذلك، وفي التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصار بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدد استمرار إلى حين خرابهما... {وما ينزل من السماء} ولم يجمع لأن المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس السافل للكل،.. {وما يعرج فيها}...
ولما كان من يتسع ملكه يغيب عنه علم بعضه لبعده عنه، عرف أنه لا مسافة أصلاً بينه وبين شيء من الأشياء فقال: {وهو معكم} أي أيها الثقلان المحتاجان إلى التهذيب بالعلم والقدرة المسببين عن القرب {أين ما كنتم} فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالياً عن اتصال بالعلم ومماسة، أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة، قال أبو العباس ابن تيمية في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: لفظ "مع " لا يقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر لقوله "اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" [التوبة: 119] وقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} ولفظ " مع " جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} [المجادلة: 7] فافتتح الكلام بالعلم واختتمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل: هو معهم بعلمه، وأما المعية الخاصة فقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] وقال: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، فهو مع موسى وهارون عليهما السلام دون فرعون، ومع محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك... {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال، وقدم الجارّ لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقق الإحاطة كما مضى التنبيه عليه غير مرة وتمثيله بنحو: أعرف فلاناً ولا أعرف غيره؛ فقال: {بما تعملون} أي على سبيل التجدد والاستمرار {بصير} أي عالم بجلائله ودقائقه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...والأيام الستة لا يعلم حقيقتها إلا الله. فأيامنا هذه ليست سوى ظلال ناشئة عن حركة الأرض حول نفسها أمام الشمس. وجدت بعد خلق الأرض والشمس فليست هي الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. فنترك علمها لله يطلعنا عليه إن أراد. وكذلك العرش. فنحن نؤمن به كما ذكره ولا نعلم حقيقته. أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق. استنادا إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله -سبحانه- لا تتغير عليه الأحوال. فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش، ثم تتبعها حالة استواء. والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسر قوله تعالى: (ثم استوى)..
والأولى أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا. والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفا لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا. إنما يستند إلى مقررات القرآن ذاته، وإلى التصور الذي يوحيه عن ذات الله سبحانه وصفاته. ومع الخلق والهيمنة العلم الشامل اللطيف، يصور النص القرآني مجاله تصويرا عجيبا... (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها).. وفي كل لحظة يلج في الأرض ما لا عداد له ولا حصر من شتى أنواع الأحياء والأشياء؛ ويخرج منها ما لا عداد ولا حصر من خلائق لا يعلمها إلا الله. وفي كل لحظة ينزل من السماء من الأمطار والأشعة والنيازك والشهب، والملائكة والأقدار والأسرار؛ ويعرج فيها كذلك من المنظور والمستور ما لا يحصيه إلا الله.. والنص القصير يشير إلى هذه الحركة الدائبة التي لا تنقطع، وإلى هذه الأحداث الضخام التي لا تحصى... (وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير..) وهي كلمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز. فالله -سبحانه- مع كل أحد، ومع كل شيء، في كل وقت، وفي كل مكان. مطلع على ما يعمل بصير بالعباد. وهي حقيقة هائلة حين يتمثلها القلب. حقيقة مذهلة من جانب، ومؤنسة من جانب. مذهلة بروعة الجلال. ومؤنسة بظلال القربى. وهي كفيلة وحدها حين يحسها القلب البشري على حقيقتها أن ترفعه وتطهره، وتدعه مشغولا بها عن كل أعراض الأرض؛ كما تدعه في حذر دائم وخشية دائمة، مع الحياة والتحرج من كل دنس ومن كل إسفاف...
... وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بعد الحديث عن السموات والأرض فيه إشارة كأن الحق سبحانه يريد أن يقول لنا أن السموات والأرض خلق طائع يؤدي مهمته ولا يشذ عما خلق له فهو غير محاسب، أما أنتم فمحاسبون لأنكم مختارون.
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} يعني: لا يحجبه ظاهر عن باطن، ولا يحجبه باطن عن ظاهر.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهو سبحانه معكم وبصير بكم، ولو كانت معية عين ما قال {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} إذن: هي معية بصير، ذكر سبحانه البصر وهو الرؤية، ولا تتصور مثل هذه المسائل، بل خذها بكمال الكمال فيه سبحانه.
وما دمنا في معية الله وتحت بصره فلنراع ذلك، ولنعمل له حسابا، ولم لا ونحن نعمل حسابا لمعية البشر و نظرهم...
ودائما نقول في حقه تعالى: ليس مع العين أين، فكل ذرة في كونه تعالى تحت بصره ولا تخفى عليه...