الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۖ وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (4)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"هُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَواتِ والأرْضَ فِي سِتّةِ أيّامِ "يقول تعالى ذكره: هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبرهنّ وما فيهنّ، ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه وعلا.

وقوله: "يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها": يقول تعالى ذكره مخبرا عن صفته، وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأرْضِ من خلقه. يعني بقوله: يَلِجُ: يدخل،" وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السّماءِ" إلى الأرض من شيء قطّ، "وَما يَعْرُجُ فِيها" فيصعد إليها من الأرض.

"وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنْتُمْ" يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سمواته السبع. "وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير" يقول: والله بأعمالكم التي تعملونها من حسن وسيئ، وطاعة ومعصية، ذو بصر، وهو لها محص، ليجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته "يَوْمَ تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ".

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... وقوله تعالى: {ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} يحتمل وجهين:

أحدهما: أي كثرة ذلك وازدحامه لا يلتبس عليه، ولا يستر عنه شيء.

والثاني: يخبر أن السماء والأرض مع ثقلهما وكثافتهما لا يستران، ولا يحجبان عليه الوالج فيهما والخارج منهما والنازل منهما، ولا يحيطان بذلك، ليعلم أن لا شيء يحجب عنه، وألا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء، والله أعلم. وقوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم}... يتوجه المعنى فيه لاختلاف الأحوال؛ يقول: إن كنتم محبين خاضعين مطيعين فهو معكم بالنصر والمعونة على أعدائكم، وإن كنتم معرضين عنه معاندين فهو معكم بالسلطان عليكم والانتقام منكم، والله أعلم.

وقوله تعالى: {والله بما تعملون بصير} قال أهل التأويل: إن علمه وسلطانه وقدرته معكم أينما كنتم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... والاستواء على العرش هو بالغلبة والقهر المستمرين بالقدرة، وليس في ذلك ما في قهر العباد من المحاولة والتعب.

وقوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} معناه بقدرته وعلمه وإحاطته. وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}...والمقصود منه دلائل القدرة... {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها}...والمقصود منه كمال العلم...

اعلم أن في هذه الآيات ترتيبا عجيبا، وذلك لأنه بين قوله: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} كونه إلها لجميع الممكنات والكائنات، ثم بين كونه إلها للعرش والسماوات والأرضين. ثم بين بقوله: {وهو معكم أينما كنتم} معينه لنا بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم وهو كونه عالما بظواهرنا وبواطننا...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

{وهو معكم أينما كنتم} أي بالعلم والقدرة فليس ينفك أحد من تعليق علم الله تعالى وقدرته أينما كان من أرض أو سماء براً وبحراً وقيل هو معكم بالحفظ والحراسة. وقوله تعالى: {والله بما تعملون بصير} يدل على صحة القول الأول.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{هو} أي وحده {الذي خلق السماوات} وجمعها لعلم العرب بتعددها {والأرض} أي الجنس الشامل للكل، أفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعددها {في ستة أيام} سناً للتأني وتقريراً للأيام التي أوترها سابعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل خلقه باسمه الجمعة على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع على أنه نهاية المخلوقات -انتهى. ولما كان تمكن الملك من سرير الملك كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه، وكان ذلك هو روح الملك، دل عليه منبهاً على عظمته بأداة التراخي فقال: {ثم استوى} أي أوجد السواء وهو العدل إيجاد من هو شديد العناية {على العرش} المحيط بجميع الموجودات بالتدبير المحكم للعرش وما دونه ومن دونه ليتصور للعباد أن العرش منشأ التدبير، ومظهر التقدير، كما يقال في ملوكنا: جلس فلان على سرير الملك، بمعنى أنه انفرد بالتدبير، وقد لا يكون هناك سرير فضلاً عن جلوس. ولما كان المراد بالاستواء الانفراد بالتدبير، وكان التدبير لا يصح إلا بالعلم والقدرة، كشفه بقوله دالاًّ على أن علمه بالخفايا كعلمه بالجلايا: {يعلم ما يلج} أي يدخل دخولاً يغيب به {في الأرض}...وإن كان ذلك بعيداً من العرش، فإن الأماكن كلها بالنسبة إليه على حد سواء في القرب والبعد {وما يخرج منها} كذلك، وفي التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصار بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدد استمرار إلى حين خرابهما... {وما ينزل من السماء} ولم يجمع لأن المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس السافل للكل،.. {وما يعرج فيها}...

ولما كان من يتسع ملكه يغيب عنه علم بعضه لبعده عنه، عرف أنه لا مسافة أصلاً بينه وبين شيء من الأشياء فقال: {وهو معكم} أي أيها الثقلان المحتاجان إلى التهذيب بالعلم والقدرة المسببين عن القرب {أين ما كنتم} فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالياً عن اتصال بالعلم ومماسة، أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة، قال أبو العباس ابن تيمية في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: لفظ "مع " لا يقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر لقوله "اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" [التوبة: 119] وقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} ولفظ " مع " جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} [المجادلة: 7] فافتتح الكلام بالعلم واختتمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل: هو معهم بعلمه، وأما المعية الخاصة فقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] وقال: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، فهو مع موسى وهارون عليهما السلام دون فرعون، ومع محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك... {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال، وقدم الجارّ لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقق الإحاطة كما مضى التنبيه عليه غير مرة وتمثيله بنحو: أعرف فلاناً ولا أعرف غيره؛ فقال: {بما تعملون} أي على سبيل التجدد والاستمرار {بصير} أي عالم بجلائله ودقائقه...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

...والأيام الستة لا يعلم حقيقتها إلا الله. فأيامنا هذه ليست سوى ظلال ناشئة عن حركة الأرض حول نفسها أمام الشمس. وجدت بعد خلق الأرض والشمس فليست هي الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. فنترك علمها لله يطلعنا عليه إن أراد. وكذلك العرش. فنحن نؤمن به كما ذكره ولا نعلم حقيقته. أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق. استنادا إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله -سبحانه- لا تتغير عليه الأحوال. فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش، ثم تتبعها حالة استواء. والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسر قوله تعالى: (ثم استوى)..

والأولى أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا. والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفا لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا. إنما يستند إلى مقررات القرآن ذاته، وإلى التصور الذي يوحيه عن ذات الله سبحانه وصفاته. ومع الخلق والهيمنة العلم الشامل اللطيف، يصور النص القرآني مجاله تصويرا عجيبا... (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها).. وفي كل لحظة يلج في الأرض ما لا عداد له ولا حصر من شتى أنواع الأحياء والأشياء؛ ويخرج منها ما لا عداد ولا حصر من خلائق لا يعلمها إلا الله. وفي كل لحظة ينزل من السماء من الأمطار والأشعة والنيازك والشهب، والملائكة والأقدار والأسرار؛ ويعرج فيها كذلك من المنظور والمستور ما لا يحصيه إلا الله.. والنص القصير يشير إلى هذه الحركة الدائبة التي لا تنقطع، وإلى هذه الأحداث الضخام التي لا تحصى... (وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير..) وهي كلمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز. فالله -سبحانه- مع كل أحد، ومع كل شيء، في كل وقت، وفي كل مكان. مطلع على ما يعمل بصير بالعباد. وهي حقيقة هائلة حين يتمثلها القلب. حقيقة مذهلة من جانب، ومؤنسة من جانب. مذهلة بروعة الجلال. ومؤنسة بظلال القربى. وهي كفيلة وحدها حين يحسها القلب البشري على حقيقتها أن ترفعه وتطهره، وتدعه مشغولا بها عن كل أعراض الأرض؛ كما تدعه في حذر دائم وخشية دائمة، مع الحياة والتحرج من كل دنس ومن كل إسفاف...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بعد الحديث عن السموات والأرض فيه إشارة كأن الحق سبحانه يريد أن يقول لنا أن السموات والأرض خلق طائع يؤدي مهمته ولا يشذ عما خلق له فهو غير محاسب، أما أنتم فمحاسبون لأنكم مختارون.

{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} يعني: لا يحجبه ظاهر عن باطن، ولا يحجبه باطن عن ظاهر.

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهو سبحانه معكم وبصير بكم، ولو كانت معية عين ما قال {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} إذن: هي معية بصير، ذكر سبحانه البصر وهو الرؤية، ولا تتصور مثل هذه المسائل، بل خذها بكمال الكمال فيه سبحانه.

وما دمنا في معية الله وتحت بصره فلنراع ذلك، ولنعمل له حسابا، ولم لا ونحن نعمل حسابا لمعية البشر و نظرهم...

ودائما نقول في حقه تعالى: ليس مع العين أين، فكل ذرة في كونه تعالى تحت بصره ولا تخفى عليه...