لما بين تعالى حال عيسى بن مريم الذي لا يشك فيها ولا يمترى ، أخبر أن الأحزاب ، أي : فرق الضلال ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، على اختلاف طبقاتهم اختلفوا في عيسى عليه السلام ، فمن غال فيه وجاف ، فمنهم من قال : إنه الله ، ومنهم من قال : إنه ابن الله . ومنهم من قال : إنه ثالث ثلاثة . ومنهم من لم يجعله رسولا ، بل رماه بأنه ولد بغي كاليهود . . وكل هؤلاء أقوالهم باطلة ، وآراؤهم فاسدة ، مبنية على الشك والعناد ، والأدلة الفاسدة ، والشبه الكاسدة ، وكل هؤلاء مستحقون للوعيد الشديد ، ولهذا قال : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ْ } بالله ورسله وكتبه ، ويدخل فيهم اليهود والنصارى ، القائلون بعيسى قول الكفر . { مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ْ } أي : مشهد يوم القيامة ، الذي يشهده الأولون والآخرون ، أهل السماوات وأهل الأرض ، الخالق والمخلوق ، الممتلئ بالزلازل والأهوال ، المشتمل على الجزاء بالأعمال ، فحينئذ يتبين ما كانوا يخفون ويبدون ، وما كانوا يكتمون .
وبعد هذا التقرير يعرض اختلاف الفرق والأحزاب في أمر عيسى فيبدو هذا الاختلاف مستنكرا نابيا في ظل هذه الحقيقة الناصعة :
( فاختلف الأحزاب من بينهم ) . .
ولقد جمع الإمبراطور الروماني قسطنطين مجمعا من الأساقفة - وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة - بلغ عدد أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى اختلافا شديدا ، وقالت كل فرقة فيه قولا . . قال بعضهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء . وقال بعضهم : هو ابن الله ، وقال بعضهم : هو أحد الأقانيم الثلاثة : الأب والابن والروح القدس . وقال بعضهم : هو ثالث ثلاثة : الله إله وهو إله وأمه إله . وقال بعضهم : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته . وقالت فرق أخرى أقوالا أخرى . ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على قول . فمال إليه الإمبراطور ونصر أصحابه وطرد الآخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين .
ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الأساقفة فإن السياق هنا ينذر الكافرين الذين ينحرفون عن الإيمان بوحدانية الله ، ينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده جموع أكبر ، وترى ما يحل بالكافرين المنحرفين :
( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم . أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ، لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين . وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) .
ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم . بهذا التنكير للتفخيم والتهويل . المشهد الذي يشهده الثقلان : الإنس والجن ، وتشهده الملائكة ، في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار .
وقوله : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } أي : اختلفت{[18821]} أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله ، وأنه عبده{[18822]} ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فصَمَّمَت طائفة - وهم جمهور اليهود ، عليهم لعائن الله - على أنه ولد زنْيَة ، وقالوا : كلامه هذا سحر . وقالت طائفة أخرى : إنما تكلم{[18823]} الله . وقال آخرون : هو ابن الله ، وقال آخرون : ثالث ثلاثة . وقال آخرون : بل هو عبد الله ورسوله . وهذا هو قول الحق ، الذي أرشد الله إليه{[18824]} المؤمنين . وقد روي [ نحو هذا ]{[18825]} عن عمرو بن ميمون ، وابن جريج ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
وقد روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، وعن عروة بن الزبير ، وعن بعض أهل العلم ، قريبًا من ذلك . وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم : أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم ، فكان جماعة الأساقفة{[18826]} منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفًا ، فاختلفوا في عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، اختلافًا متباينًا ، فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه قولا{[18827]} وسبعون تقول{[18828]} فيه قولا آخر ، وخمسون تقول{[18829]} فيه شيئًا آخر ، ومائة وستون تقول شيئًا ، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم ، اتفقوا على قول وصَمَّموا عليه{[18830]} ومال{[18831]} إليهم الملك ، وكان فيلسوفًا ، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم ، فوضعوا له الأمانة الكبيرة ، بل هي الخيانة العظيمة ، ووضعوا له كتب القوانين ، وشرَّعوا له أشياء{[18832]} وابتدعوا بدعًا كثيرة ، وحَرَّفوا دين المسيح ، وغيروه ، فابتنى حينئذ لهم{[18833]} الكنائس الكبار في مملكته كلها : بلاد الشام ، والجزيرة ، والروم ، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة{[18834]} ألف كنيسة ، وبنت أمه هيلانة قُمَامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب{[18835]} الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح ، وقد كذبوا ، بل رفعه الله إلى السماء .
وقوله : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله ، وافترى ، وزعم أن له ولدا . ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلمًا وثقة بقدرته عليهم ؛ فإنه الذي لا يعجل على من عصاه ، كما جاء في الصحيحين : " إن الله ليملي{[18836]} للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] وفي الصحيحين أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أحد أصبر على أذى سمعه{[18837]} من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم " {[18838]} . وقد قال الله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] وقال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ولهذا قال هاهنا : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : يوم القيامة ، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته ، عن عبادة بن الصامت ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله [ ورسوله ]{[18839]} وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " {[18840]}
{ فاختلف الأحزاب من بينهم } اليهود والنصارى . أو فرق النصارى نسطورية قالوا إنه ابن الله ويعقوبية قالوا هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وملكانية قالوا هو عبد الله ونبيه . { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } من شهود يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه ، وهو يوم القيامة أو من وقت الشهود أو من مكانه فيه ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وآرابهم وأرجلهم بالكفر والفسق ، أو من وقت الشهادة أو من مكانها . وقيل هو ما شهدوا به في عيسى وأمه .
هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام بأن بني اسرائيل اختلفوا أحزاباً أي فرقاً ، وقوله { من بينهم } معناه أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا المختلفين . وروي في هذا عن قتادة أن بني اسرائيل جمعوا من أنفسهم اربعة أحبار غاية في المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم بأن يبينوا أمر عيسى فقال احدهم : عيسى هو الله نزل إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات ثم صعد ، فقال له الثلاثة كذبت واتبعه اليعقوبية ، ثم قيل للثلاثة فقال أحدهم : عيسى ابن الله فقال له الاثنان كذبت واتبعه النسطورية ، ثم قيل للاثنين فقال أحدهم عيسى أحد ثلاثة الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله ، فقال له الرابع كذبت واتبعه الإسرائيلية ، فقيل للرابع فقال عيسى عبد الله وكلمته ألقاها الى مريم فاتبع كل واحد من الأربعة فريقاً من بني اسرائيل ثم اقتتلوا فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع . وروي أن في ذلك نزلت { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم }{[7963]} [ آل عمران : 21 ] . و «الويل » الحزن والثبور ، وقيل ويل واد في جهنم ، و { مشهد يوم عظيم } هو مشهد يوم القيامة ويحتمل أن يراد ب { مشهد يوم عظيم } يوم قتل المؤمنون حين اختلف الأحزاب ، وقد أشار إلى هذا المعنى قتادة .