{ قل } يا محمد للمتخلفين عن الهجرة .
قوله تعالى : { إن كان آباؤكم } ، وذلك لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا : إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجاراتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا ، فنزل : " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم " ، قرأ أبو بكر عن عاصم : عشيراتكم بالألف على الجمع ، والآخرون بلا ألف على التوحيد ، لأن جمع العشيرة واقعة على الجمع ، ويقوي هذه القراءة أن أبا الحسن الأخفش قال : لا تكاد العرب تجمع العشيرة على العشيرات ، إنما تجمعها على العشائر .
قوله تعالى : { وأموال اقترفتموها } اكتسبتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها " ، أي : تستطيبونها يعنى القصور والمنازل .
قوله تعالى : { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا } ، فانتظروا . { حتى يأتي الله بأمره } ، قال عطاء : بقضائه . وقال مجاهد ومقاتل : بفتح مكة وهذا أمر تهديد .
{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } ومثلهم الأمهات { وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ } في النسب والعشرة{[365]} { وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أي : قراباتكم عموما { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أي : اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها ، خصها بالذكر ، لأنها أرغب عند أهلها ، وصاحبها أشد حرصا عليها ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كَدّ .
{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أي : رخصها ونقصها ، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات ، من الأثمان ، والأواني ، والأسلحة ، والأمتعة ، والحبوب ، والحروث ، والأنعام ، وغير ذلك .
{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } من حسنها وزخرفتها وموافقتها لأهوائكم ، فإن كانت هذه الأشياء { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } فأنتم فسقة ظلمة .
{ فَتَرَبَّصُوا } أي : انتظروا ما يحل بكم من العقاب { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الذي لا مرد له .
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعة اللّه ، المقدمين على محبة اللّه شيئا من المذكورات .
وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله ، وعلى تقديمها على محبة كل شيء ، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد ، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من اللّه ورسوله ، وجهاد في سبيله .
وعلامة ذلك ، أنه إذا عرض عليه أمران ، أحدهما يحبه اللّه ورسوله ، وليس لنفسه فيها هوى ، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ، ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله ، أو ينقصه ، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه ، على ما يحبه اللّه ، دل ذلك على أنه ظالم ، تارك لما يجب عليه .
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ؛ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى : الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة [ وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج ] والأموال والتجارة [ مطمع الفطرة ورغبتها ] والمساكن المريحة [ متاع الحياة ولذتها ] . . وفي الكفة الأخرى : حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله . الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته . الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب ، وما يتبعه من تضييق وحرمان ، وما يتبعه من ألم وتضحية ، وما يتبعه من جراح واستشهاد . . وهو - بعد هذا كله - " الجهاد في سبيل الله " مجردا من الصيت والذكر والظهور . مجردا من المباهاة ، والفخر والخيلاء . مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه . وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب . .
( قل : إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ، وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها ، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . . فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . . . )
ألا إنها لشاقة . ألا وإنها لكبيرة . ولكنها هي ذاك . . وإلا :
( فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) .
( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده ، إنما تطالب به الجماعة المسلمة ، والدولة المسلمة . فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله .
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف ، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال ؛ وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها . . لذة الشعور بالاتصال بالله ، ولذة الرجاء في رضوان الله ، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط ، والخلاص من ثقلة اللحم والدم ، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء . فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك .
ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر{[13303]} أهله وقرابته وعشيرته على الله وعلى رسوله وجهاد في سبيله ، فقال : ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ) أي : اكتسبتموها وحصلتموها ( وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ) أي : تحبونها لطيبها وحسنها ، أي : إن كانت هذه الأشياء ( أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا ) أي : فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ؛ ولهذا قال : ( حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لهيعة ، عن زهرة بن معبد ، عن جده قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ، فقال : والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله{[13304]} صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " . فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي . فقال رسول الله : " الآن يا عمر " {[13305]}
انفرد بإخراجه{[13306]} البخاري ، فرواه عن يحيى بن سليمان ، عن ابن وهب ، عن حيوة بن شريح ، عن أبي عقيل زهرة بن معبد ، أنه سمع جده عبد الله بن هشام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا{[13307]}
وقد ثبت في الصحيح عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " {[13308]}
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني ، عن عطاء الخراساني ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم بأذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم
وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون ، عن أبي جناب ، عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله ابن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك{[13309]} وهذا شاهد للذي قبله ، والله أعلم .
{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } أقرباؤكم مأخوذ من العشرة . وقيل من العشرة فإن العشيرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة . وقرأ أبو بكر " وعشيراتكم " وقرئ " وعشائركم " . { وأموال اقترفتموها } اكتسبتموها . { وتجارة تخشون كسادها } فوات وقت نفاقها . { ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } الحب الاختياري دون الطبيعي فإنه لا يدخل تحت التكليف في التحفظ عنه . { فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره } جواب ووعيد والأمر عقوبة عاجلة أو آجلة . وقيل فتح مكة . { والله لا يهدي القوم الفاسقين } لا يرشدهم ، وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه .
هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه والتي قبلها إنما مقصودها الحض على الهجرة ، وفي ضمن قوله : { فتربصوا } وعيد بين ، وقوله { بأمره } قاله الحسن الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله ، وقال مجاهد{[5576]} : الإشارة إلى فتح مكة ، والمعنى فإذا جاء الله بأمره فلم تسلفوا ما يكون لكم أجراً ومكانة في الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وذكر الأبناء في الآية لما جلبت ذكرهم المحبة ، والأبناء صدر في المحبة وليسوا كذلك في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة ، وقرأ جهور الناس «وعشيرتكم » ، وقرأ عاصم وحده بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وعصمة «وعشيراتكم » ، وحسن هذا الجمع إذ لكل أحد عشيرة تختص به ، ويحسن الإفراد أن أبا الحسن الأخفش قال إنما تجمع العرب عشائر ولا تكاد تقول عشيرات ، و { اقترفتموها } معناه اكتسبتموها ، وأصل الاقتراف والمقارفة مقاربة الشيء{[5577]} ، { وتجارة تخشون كسادها } بيّن في أنواع المال ، وقال ابن المبارك : الإشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لا يوجد لهن خاطب{[5578]} { ومساكن } جمع مسكن بفتح الكاف مفعل من السكنى ، وما كان من هذا معتل الفاء فإنما يأتي على مفعل بكسر العين كموعد وموطن ، والمساكن القصور والدور ، و { أحب } خبر كان ، وكان الحجاج بن يوسف يقرؤها «أحبُّ » بالرفع وله في ذلك خبر مع يحيى بن يعمر سأله الحجاج هل تسمعني الجن قال نعم في هذا الحرف ، وذكر له رفع أحب فنفاه .
قال القاضي أبو محمد : وذلك خارج في العربية على أن يضمر في كان الأمر والشأن{[5579]} ولم يقرأ بذلك ، وقوله { والله لا يهدي القوم الفاسقين } عموم لفظ يراد به الخصوص فيمن يوافي على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق .