اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ وَإِخۡوَٰنُكُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ وَعَشِيرَتُكُمۡ وَأَمۡوَٰلٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَآ أَحَبَّ إِلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (24)

قوله : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } " آباؤكم " وما عطف عليه اسم " كان " ، و " أحب " خبرها ، فهو منصوبٌ ، وكان الحجاجُ بنُ يوسف يقرها بالرفع ، ولحَّنَه يحيى بن يعمر فنفاه .

قال أبو حيَّان " إنَّما لحَّنَه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقلة ، وإلاَّ فهي جائزةٌ في العربية ، يُضمر في " كان " اسماً ، وهو ضميرُ الشأن ، ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر ، وحينئذٍ تكونُ الجملة خبراً عن " كان " .

قال شهاب الدِّين{[17688]} . فيكون كقول الشاعر : [ الطويل ]

إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ *** وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنتُ أصْنَعُ{[17689]}

وهذا في أحد تأويلي البيت .

والآخر : أنَّ " صنفان " : خبرٌ منصوب ، وجاء به على لغةِ بني الحارث ، ومن وافقهم .

والحكاية التي أشار إليها الشَّيْخُ من تلحين يحيى للحجَّاج هي : أنَّ الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة ، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه : هل تجدني ألحن ؟ فقال : الأميرُ أجَلُّ من ذلك ، فقال : عَزمْتُ عليك إلاَّ ما أخبرتني ، وكانوا يُعظِّمون عزائم الأمراء ، فقال : نعم ، فقال : في أي شيءٍ ؟ فقال : في القرآن ، فقال : ويْلَك ! ! ذلك أقبحُ بي ، في أيِّ آية ؟ قال : سَمعتُك تقر : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ } إلى أن انتهيت إلى " أحَبّ " فرفعتها ، فقال : إذن لا تسمعني ألْحَنُ بعدها ، فنفاهُ إلى " خراسان " فمكث بها مدةً ، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة ، فجاءهم جيش ، فكتب إلى الحجاج كتاباً ، وفيه : " وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض ، وصعدنا عُرعُرة الجبل " ، فقال الحجاج : ما لابن المهلب ولهذا الكلام ، فقيل له : إنَّ يحيى هناك ، فقال : إذن ذاك .

وقرأ الجمهور " عَشيرَتُكُمْ " بالإفراد ، وأبو بكر{[17690]} عن عاصم " عَشِيراتكم " جمع سلام . [ ووجه الجمع أنَّ لكلِّ من المخاطبين عشيرة ، فحسن الجمع ، وزعم الأخفشُ أنَّ " عشيرة " لا تجمع بالألف والتاء ، وإنَّما تكسيراً على " عشائر " ، وهذه القراءة حجةٌ عليه ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن{[17691]} السلمي وأبي رجاء .

وقرأ الحسن{[17692]} " عَشائرُكُم " قيل : وهي أكثر مِنْ " عشيراتكم " ]{[17693]} .

و " العَشِيرةُ " : هي : الأهلُ الأدنون . وقيل : هم أهلُ الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم ، أي : يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل ، وذلك أنَّ العشيرة هي العددُ الكاملُ ، فصارت العشيرةُ اسماً لأقارب الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم ، سواءً بلغوا العشرة أم فوقها .

وقيل : هي الجماعةُ المجتمعة بنسبٍ ، أو وداد ، لعقد العشرة .

فصل

هذه الآية هي تقريرُ الجواب المذكور في الآية الأولى ، وذلك لأنَّ جماعة المؤمنين ، قالوا : يا رسُول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكليَّة ؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا ، وإن نحن فعلنا ذلك ، ذهبت تجارتنا ، وهلكت أموالنا ، وخربت ديارنا ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ } أي : تَسْتوطنُونَها راضين بسكناها { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ } فانتظروا { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } . قال عطاءٌ : " بقضائه " {[17694]} .

وقال مجاهدٌ ومقاتلٌ : " بفتح مكَّة " {[17695]} .

وهذا أمر تهديد ، فبيَّن تعالى أنَّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدُّنيا ، ليبقى الدِّين سليماً . ثم قال { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } أي : الخارجين عن الطاعةِ ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه إذا وقع التَّعارضُ بين مصلحةٍ واحدة من مصالح الدِّين ، وبين مهمات الدُّنيا ؛ وجب ترجيح الدِّين على الدنيا .


[17688]:ينظر: الدر المصون 3/455.
[17689]:تقدم.
[17690]:ينظر: السبعة ص (313)، الحجة 4/180، حجة القراءات ص (316)، النشر 2/278، إتحاف فضلاء البشر 2/89.
[17691]:ينظر: الكشاف 2/2/257، المحرر الوجيز 3/18، البحر المحيط 5/24، الدر المصون 3/456.
[17692]:ينظر: السابق.
[17693]:سقط في أ.
[17694]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/277).
[17695]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/403) وعزاه إلى ابن شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/339). وذكره البغوي في "تفسيره" (2/277) عن مجاهد ومقاتل.