ثم يذكر اختيار الله لبني إسرائيل - على علم - بحقيقتهم كلها ، خيرها وشرها . اختيارهم على العالمين في زمانهم بطبيعة الحال ، لما يعلمه الله من أنهم أفضل أهل زمانهم وأحقهم بالاختيار والاستخلاف ؛ على كل ما قصه عنهم بعد ذلك من تلكؤ ومن انحراف والتواء . مما يشير إلى أن اختيار الله ونصره قد يكون لأفضل أهل زمانهم ؛ ولو لم يكونوا قد بلغوا مستوى الإيمان العالي ؛ إذا كانت فيهم قيادة تتجه بهم إلى الله على هدى وعلى بصيرة واستقامة .
وقوله : { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } قال مجاهد : { اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } على من هم بين ظهريه . وقال قتادة : اختيروا على أهل زمانهم ذلك . وكان يقال : إن
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ
لكل زمان عالما . وهذه{[26236]} كقوله تعالى : { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } [ الأعراف : 144 ] أي : أهل زمانه ، وكقوله لمريم : { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] أي : في زمانها ؛ فإن خديجة أفضل منها ، وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، أو مساوية لها في الفضل ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىَ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم مّنَ الاَيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مّبِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد اخترنا بني إسرائيل على علم منا بهم على عالمي أهل زمانهم يومئذٍ ، وذلك زمان موسى صلوات الله وسلامه عليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ على العالَمِينَ : أي اختيروا على أهل زمانهم ذلك ، ولكلّ زمان عالم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ على عِلْم على العالَمِينَ قال : عالم ذلك الزمان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ على عِلْمٍ على العالَمِينَ قال : على من هم بين ظَهْرانَيْهِ .
إشارة إلى أن الله تعالى قد اختار الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم على أمم عصرهم كما اختار الذين آمنوا بموسى عليه السلام على أمم عصرهم وأنه عالم بأن أمثالهم أهل لأن يختارهم الله . والمقصود : التنويه بالمؤمنين بالرسل وأن ذلك يقتضي أن ينصرهم الله على أعدائهم ولأجل هذه الإشارة أكد الخبر باللام و ( قد ) ، كما أكد في قوله آنِفاً { ولقد نجينا بني إسرائيل } [ الدخان : 30 ] ، و { على } في قوله : { على علم } بمعنى ( مع ) ، كقول الأحوص :
إني على ما قد علمتتِ محسَّد *** أنمي على البغضاء والشنآن
وموضع المجرور بها موضع الحال .
والمراد ب { العالمين } الأمم المعاصرة لهم . ثم بدلوا بعد ذلك فضربت عليهم الذلة ، وقد اختار الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم فقال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] أي أخرجها الله للناس . واختار المسلمين بعدهم اختياراً نسبياً على حسب استقامتهم واستقامة غيرهم من الأمم على أن التوحيد لا يعدله شيء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم رجع إلى بني إسرائيل، فقال: {ولقد اخترناهم على علم} علمه الله عز وجل منهم {على العالمين}، يعني عالم ذلك الزمان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولقد اخترنا بني إسرائيل على علم منا بهم، على عالمي أهل زمانهم يومئذٍ، وذلك زمان موسى صلوات الله وسلامه عليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: أي اخترناهم على علم أي بسبب علم، آتيناهم ذلك، لم نُؤت ذلك غيرهم ليُظهر فضيلة العلم على العالمين وشرفه، والله أعلم.
والثالث: أي اخترناهم على علم، أي بسبب علم أخرجنا غيرهم إليه، فصاروا مختارين مفضّلين بسبب تعليمهم إياهم ما احتاجوا إليه، أي فيكون لهم فضل الأستاذ على التلميذ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها: باصطفائهم لرسالته، والدعاء إلى طاعته.
الثاني: باختيارهم لدينه وتصديق رسله.
الثالث: بإنجائهم من فرعون وقومه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{على عِلْمٍ} في موضع الحال، أي: عالمين بمكان الخيرة، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا ويجوز أن يكون المعنى: مع علم منا بأنهم يزيغون ويفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت قريش تفتخر بظواهر الأمور من الزينة والغرور، ويعدونه تعظيماً من الله، ويعدون ضعف الحال في الدنيا شقاء وبعداً من الله، رد عليهم قولهم بما أتى بني إسرائيل على ما كانوا فيه من الضعف و سوء الحال بعد إهلاك آل فرعون بعذاب الاستئصال، فقال مؤكداً لاستبعاد قريش أن يختار من قل حظه من الدنيا: {ولقد} اخترناهم} أي فعلنا بما لنا من العظمة في جعلنا لهم خياراً فعل من اجتهد في ذلك، وعظم أمرهم بقوله بانياً على ما تقديره: اختياراً مستعلياً.
{على علم} أي منا بما يكون منهم من خير وشر، وقد ظهر من آثاره أنكم صرتم تسألونهم وأنتم صريح ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام عما ينوبكم وتجعلونهم قدوتكم فيما يصيبكم و تضربون إليه أكباد الإبل، وهكذا يصير عن قليل كل من اتبع رسولكم صلى الله عليه وسلم منكم ومن غيركم.
ولما بين المفضل، بين المفضل عليه فقال: {على العالمين} أي الموجودين في زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتب وأرسلنا إليهم من الرسل.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
عالمي زمانهم ومن قبلهم وبعدهم حتى أتى الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ففضلوا العالمين كلهم وجعلهم الله خير أمة أخرجت للناس وامتن عليهم بما لم يمتن به على غيرهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يذكر اختيار الله لبني إسرائيل -على علم- بحقيقتهم كلها، خيرها وشرها. اختيارهم على العالمين في زمانهم بطبيعة الحال، لما يعلمه الله من أنهم أفضل أهل زمانهم وأحقهم بالاختيار والاستخلاف؛ على كل ما قصه عنهم بعد ذلك من تلكؤ ومن انحراف والتواء. مما يشير إلى أن اختيار الله ونصره قد يكون لأفضل أهل زمانهم؛ ولو لم يكونوا قد بلغوا مستوى الإيمان العالي؛ إذا كانت فيهم قيادة تتجه بهم إلى الله على هدى وعلى بصيرة واستقامة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إشارة إلى أن الله تعالى قد اختار الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم على أمم عصرهم كما اختار الذين آمنوا بموسى عليه السلام على أمم عصرهم وأنه عالم بأن أمثالهم أهل لأن يختارهم الله والمقصود: التنويه بالمؤمنين بالرسل وأن ذلك يقتضي أن ينصرهم الله على أعدائهم؛ ولأجل هذه الإشارة أكد الخبر باللام و (قد)، كما أكد في قوله آنِفاً {ولقد نجينا بني إسرائيل} [الدخان: 30] و {على} في قوله: {على علم} بمعنى (مع)، وموضع المجرور بها موضع الحال.
والمراد ب {العالمين} الأمم المعاصرة لهم. ثم بدلوا بعد ذلك فضربت عليهم الذلة، وقد اختار الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم فقال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] أي أخرجها الله للناس. واختار المسلمين بعدهم اختياراً نسبياً على حسب استقامتهم واستقامة غيرهم من الأمم على أن التوحيد لا يعدله شيء.
{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
الكلام هنا عن بني إسرائيل، وهم يتمسكون بهذه الآية ويبنون عليها أنهم شعب الله المختار، فيقولون: إن الله الذي خلقكم وبعث إليكم رسولاً هو الذي اختارنا على العالمين.
وهذا ادعاء باطل لأن معنى {عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32] أي: العالمين في زمانهم والمعاصرين لهم من قوم فرعون وغيرهم، وهؤلاء كانوا في الغالب وثنيين، ففضَّل الله بني إسرائيل عليهم لأنهم يؤمنون بالله وكانوا في هذا الوقت خيرة خَلْق الله جميعاً.
لكنهم أرادوا أنْ يسحبوا هذا الحكم على الناس جميعاً، وعلى العالمين في كل زمان ومكان، وهذا لا يجوز، بدليل أنهم لما خالفوا منهج الله قطَّعهم في الأرض أمماً، وبعثرهم في كل مكان عقاباً لهم.
حتى أنك تجد في كل بلد من البلاد حارة باسمهم تسمى (حارة اليهود)، تراهم مجتمعين ومنغلقين على أنفسهم لا ينسجمون ولا يذوبون في المجتمع من حولهم.
حتى أن القرآن عبَّر عن هذا المعنى بقوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً} [الأعراف: 168] فكل جماعة منهم في مكان تمثل أمة بذاتها؛ لأنهم لا يذوبون في غيرهم من الأمم.
والذي ينفي ادعاءهم هذا قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167] وهذا هو الذي يحدث بالفعل، فمن حين لآخر يُسلِّط الله عليهم مَنْ يسومهم سوء العذاب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير الآية التالية إلى نعمة أُخرى من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل، فتقول: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) إلاّ أنّهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة، فكفروا وعوقبوا.
وعلى هذا فإنّهم كانوا الأمة المختارة في عصرهم؛ لأنّ المراد من العالمين البشر في ذلك العصر والزمان لا في كلّ القرون والأعصار؛ لأنّ القرآن يخاطب الأمة الإسلامية بصراحة في الآية (110) من سورة آل عمران ويقول: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس).
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأراضي التي ورثها بنو إسرائيل، إذ يقول القرآن الكريم في الآية (137) من سورة الأعراف (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) في حين أنّ بني إسرائيل لم يرثوا كلّ الأرض، والمراد شرق منطقتهم وغربها.
ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان لبني إسرائيل بعض الميزات التي كانت منحصرة فيهم على مرّ التاريخ، ومن جملتها كثرة الأنبياء، إذ لم يظهر في أي قوم هذا العدد من الأنبياء.
إلاّ أنّ هذا الكلام، إضافة إلى أنّه لا يثبت مزيتهم المطلقة هذه، فإنّه يدل على أنّها ليست مزية أساساً، فربَّما كانت كثرة الأنبياء فيهم دليلاً على غاية تمرد هؤلاء القوم وقمة عصيانهم، كما بيّنت الحوادث المختلفة بعد ظهور موسى (عليه السلام) أنّهم لم يتركوا شيئاً سيئاً لم يفعلوه ضد هذا النّبي العظيم.
هؤلاء القوم المعاندين كانوا يؤذون أنبياءهم دائماً حسب ما يذكره القرآن، وكانوا يقفون أمام أحكام الله سبحانه بكلّ تصلب وعناد، بل إنّهم بمجرّد أنّ نجوا من النيل وأهواله طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها! وهذا يدلنا على إمكانية أن يكون الهدف من الآية ليس بيان خصيصة لبني إسرائيل، بل بيان حقيقة أُخرى، وعليه يصبح معنى الآية: مع أننا نعلم أنّ هؤلاء سيسيئون استغلال نعم الله ومواهبه، فقد منحناهم التفوق لنختبرهم.
كما يستفاد من الآية التالية أيضاً أنّ الله سبحانه قد منحهم مواهب اُخرى ليبلوهم.
ولذا فإنّ هذا الاختبار الإلهي لا يدل على كونه مزية لهؤلاء، وليس هذا وحسب، بل هو ذم ضمني أيضاً؛ لأنّهم لم يشكروا هذه النعمة، ولم يؤدّوا حقها، ولم ينجحوا في الامتحان.