قوله تعالى :{ فخسفنا به وبداره الأرض } قال أهل العلم بالأخبار : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى ، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة في كل طرف خيطاً أزرق كلون السماء ، يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ، ويعلمون أني منزل منها كلامي ، فقال موسى : يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط ، فقال له ربه : يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير ، فدعاهم موسى عليه السلام ، وقال : إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً خضراً كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ، ففعلت بني إسرائيل ما أمرهم به موسى ، واستكبر قارون فلم يطعه ، وقال : إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم ، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون ، وهي رياسة المذبح ، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله ، فوجد قارون من ذلك في نفسه وأتى موسى فقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ، ولست في شيء من ذلك ، وأنا أقرأ التوراة ، لا صبر لي على هذا . فقال له موسى : ما أنا جعلتها في هارون بل الله جعلها له . فقال قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه ، فجمع موسى رؤوس بني إسرائيل فقال : هاتوا عصيكم ، فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها ، فجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا ، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون ترى هذا ؟ فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، واعتزل قارون موسى بأتباعه ، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداةً لموسى ، حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب ، وضرب على جدرانها صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وعن كل ألف شيء على شيء ، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيراً فلم تسمح بذلك نفسه ، فجمع بني إسرائيل فقال لهم : يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه ، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي ، فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها ، فإذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل عليه ورفضوه ، فدعاها فجعل لها قارون ألف درهم ، وقيل ألف دينار ، وقيل طستاً من ذهب ، وقال لها إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى ينفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل ، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال : إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم ، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض ، فقام فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت ، فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ وعظم عليها القسم ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت ، فتداركها الله تعالى بالتوفيق فقالت في نفسها : أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : لا ، كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلاً أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجداً يبكي ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله تعالى إليه : إني أمرت الأرض أن تطيعك ، فمرها بما شئت ، فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم . وفي رواية : كان على سريره وفرشه فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ، ويناشده قارون الله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرة وموسى عليه السلام في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض ، وأوحى الله إلى موسى ما أغلط قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه ، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأعثته . وفي بعض الآثار : لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد . قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة . قال : وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض ، فذلك قوله عز وجل : { فخسفنا به وبداره الأرض } { فما كان له من فئة } من جماعة ، { ينصرونه من دون الله } يمنعونه من الله ، { وما كانوا من المنتصرين } من الممتنعين مما نزل به من الخسف .
فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر ، وازَّيَّنَتْت الدنيا عنده ، وكثر بها إعجابه ، بغته العذاب { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } جزاء من جنس عمله ، فكما رفع نفسه على عباد اللّه ، أنزله اللّه أسفل سافلين ، هو وما اغتر به ، من داره وأثاثه ، ومتاعه .
{ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ } أي : جماعة ، وعصبة ، وخدم ، وجنود { يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } أي : جاءه العذاب ، فما نصر ولا انتصر .
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى ، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما . ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا :
( فخسفنا به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين ) . .
هكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة : ( فخسفنا به وبداره الأرض )فابتلعته وابتعلت داره ، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا ، لا ينصره أحد ، ولا ينتصر بجاه أو مال .
وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله ؛ وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال . وكان هذا المشهد الأخير :
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته ، وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت في الصحيح - عند البخاري من حديث الزهري ، عن سالم - أن أباه حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به{[22418]} ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة " .
ثم رواه من حديث جرير بن زيد ، عن سالم عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه{[22419]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص ، حدثنا الأعمش ، عن عطية{[22420]} ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله{[22421]} صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل فيمَنْ كان قبلكم ، خرج في بُرْدَيْن أخضرين يختال فيهما ، أمر الله الأرض فأخذته ، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة " . تفرد به أحمد{[22422]} ، وإسناده حسن .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا أبو معلى بن منصور{[22423]} ، أخبرني محمد بن مسلم ، سمعت زيادًا النميري يحدث عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل فيمن{[22424]} كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما ، فأمر الله الأرض فأخذته ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " {[22425]} .
وقد ذكر [ الحافظ ]{[22426]} محمد بن المنذر - شكَّر - في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال : رأيت شابًّا في مسجد نجران ، فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله وتمامه وجماله ، فقال : ما لك تنظر إلي ؟ فقلت : أعجب من جمالك وكمالك . فقال : إن الله ليعجب مني . قال : فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر ، فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب .
وقد ذُكر أن هلاك قارون كان عن دعوة نبي الله موسى عليه السلام{[22427]} واختلف في سببه ، فعن ابن عباس والسدي : أن قارون أعطى امرأة بَغِيَّا مالا على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل ، وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله ، فتقول : يا موسى ، إنك فعلت بي كذا وكذا . فلما قالت في الملأ ذلك{[22428]} لموسى عليه السلام ، أرْعِدَ من الفَرَق ، وأقبل عليها{[22429]} وصلى ركعتين ثم قال : أنشدك بالله الذي فَرَق البحر ، وأنجاكم من فرعون ، وفعل كذا و[ فعل ]{[22430]} كذا ، لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت ؟ فقالت : أما إذ نَشَدْتَني فإن قارون أعطاني كذا وكذا ، على أن أقول لك ، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه . فعند ذلك خَرّ موسى لله عز وجل ساجدًا ، وسأل الله في قارون . فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه ، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره فكان{[22431]} ذلك .
وقيل : إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك ، وهو راكب على البغال الشّهب ، وعليه وعلى خدمه الثياب الأرجوان الصّبغة{[22432]} ، فمر في جَحْفَله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام ، وهو يذكرهم بأيام الله . فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوه الناس حوله ، ينظرون إلى ما هو فيه . فدعاه موسى عليه السلام ، وقال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا موسى ، أما لئن كنت فُضِّلتَ عَلَيَّ بالنبوة ، فلقد فضلت عليك بالدنيا ، ولئن شئت لتخرجن ، فلتدعون عليّ وأدعو عليك . فخرج وخرج قارون في قومه ، فقال موسى{[22433]} : تدعو أو أدعو أنا ؟ قال : بل أنا أدعو . فدعا قارون فلم يجب له ، ثم قال موسى{[22434]} : أدعو ؟ قال : نعم . فقال موسى : اللهم ، مُر الأرض أن تطيعني{[22435]} اليوم . فأوحى الله إليه أني قد فعلت ، فقال موسى : يا أرض ، خذيهم . فأخذتهم إلى أقدامهم . ثم قال : خذيهم . فأخذتهم إلى ركبهم ، ثم إلى مناكبهم . ثم قال : أقبلي بكنوزهم وأموالهم . قال : فأقبلت بها حتى نظروا إليها . ثم أشار موسى بيده فقال : اذهبوا بني لاوى{[22436]} فاستوت بهم الأرض .
وعن ابن عباس أنه قال : خُسف بهم إلى الأرض السابعة .
وقال قتادة : ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة ، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة .
وقد ذكر ها هنا إسرائيليات [ غريبة ]{[22437]} أضربنا عنها صفحًا .
وقوله : { فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } أي : ما أغنى عنه مالُه ، وما جَمَعه ، ولا خدمه و [ لا ]{[22438]} حشمه . ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله [ به ]{[22439]} ، ولا كان هو في نفسه منتصرًا لنفسه ، فلا ناصر له[ لا ]{[22440]} من نفسه ، ولا من غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فخسفنا بقارون وأهل داره . وقيل : وبداره ، لأنه ذكر أن موسى إذ أمر الأرض أن تأخذه أمرها بأخذه ، وأخذ من كان معه من جلسائه في داره ، وكانوا جماعة جلوسا معه ، وهم على مثل الذي هو عليه من النفاق والمؤازرة على أذى موسى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت الزكاة أتى قارون موسى ، فصالحه على كلّ ألف دينار دينارا ، وكلّ ألف شيء شيئا ، أو قال : وكلّ ألف شاة شاة «الطبريّ يشكّ » ، قال : ثم أتى بيته فحسبه فوجده كثيرا ، فجمع بني إسرائيل ، فقال : يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكلّ شيء فأطعتموه ، وهو الاَن يريد أن يأخذ من أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا وأنت سيدنا ، فمرنا بما شئت ، فقال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغيّ ، فتجعلوا لها جُعلاً ، فتقذفه بنفسها ، فدعوها فجعل لها جُعلاً على أن تقذفه بنفسها ، ثم أتى موسى ، فقال لموسى : إن بني إسرائيل قد اجتمعوا لتأمرهم ولتنهاهم ، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض ، فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مئة ، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت ، أو رجمناه حتى يموت «الطبري يشكّ » ، فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة . قال : ادعوها ، فإن قالت ، فهو كما قالت فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة ، قالت : يا لَبّيك ، قال : أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ قالت : لا ، وكذبوا ، ولكن جعلوا لي جُعْلاً على أن أقذفك بنفسي فوثب ، فسجد وهو بينهم ، فأوحى الله إليه : مُرِ الأرض بما شئت ، قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أقدامهم . ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم . ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى حِقِيّهم ، ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى أعناقهم قال : فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى ، ويتضرّعون إليه . قال : يا أرض خذيهم ، فانطبقت عليهم ، فأوحى الله إليه : يا موسى ، يقول لك عبادي : يا موسى ، يا موسى ، فلا ترحمهم ؟ أما لو إياي دَعَوا ، لوجدوني قريبا مجيبا قال : فذلك قول الله : فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ وكانت زينته أنه خرج على دوابّ شُقْر عليها سُروج حُمْر ، عليهم ثياب مُصَبّغة بالبَهْرَمان . قالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الحَياةَ الدّنْيا : يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ . . . إلى قوله إنّه لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ يا محمد تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُها للّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأرْضِ وَلا فَسادا ، والعاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : لما أمر الله موسى بالزكاة ، قال : رَمَوه بالزنا ، فجزع من ذلك ، فأرسلوا إلى امرأة كانت قد أعطوها حكمها ، على أن ترميه بنفسها فلما جاءت عظم عليها ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل ، وأنزل التوراة على موسى إلاّ صَدَقت . قالت : إذ قد استحلفتَني ، فإني أشهد أنك بريء ، وأنك رسول الله ، فخرّ ساجدا يبكي ، فأوحى الله تبارك وتعالى : ما يبكيك ؟ قد سلطناك على الأرض ، فمرها بما شئت ، فقال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ما شاء الله ، فقالوا : يا موسى ، يا موسى فقال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ما شاء الله ، فقالوا : يا موسى ، يا موسى فخسفتهم . قال : وأصاب بني إسرائيل بعد ذلك شدّة وجوع شديد ، فأتَوا موسى ، فقالوا : ادع لنا ربك قال : فدعا لهم ، فأوحى الله إليه : يا موسى ، أتكلمني في قوم قد أظلم ما بيني وبينهم خطاياهم ، وقد دعوك فلم تجبهم ، أما إيّاي لو دَعَوا لأجبتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الأرْضَ قال : قيل للأرض خذيهم ، فأخذتهم إلى أعقابهم ثم قيل لها : خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم ثم قيل لها : خذيهم ، فأخذتهم إلى أحْقائهم ثم قيل لها : خذيهم ، فأخذتهم إلى أعناقهم ثم قيل لها : خذيهم ، فَخُسِف بهم ، فذلك قوله : فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عليّ بن هاشم بن البريد ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال : كان ابن عمه ، وكان موسى يقضي في ناحية بني إسرائيل ، وقارون في ناحية ، قال : فدعا بَغِيّة كانت في بني إسرائيل ، فجعل لها جُعْلاً على أن ترمي موسى بنفسها ، فتركته إذا كان يوم تجتمع فيه بنو إسرائيل إلى موسى ، أتاه قارون فقال : يا موسى ما حدّ من سرق ؟ قال : أن تنقطع يده ، قال : وإن كنتَ أنت ؟ قال : نعم قال : فما حَدّ مَن زنى ؟ قال : أن يُرجم ، قال : وإن كنت أنت ؟ قال : نعم قال : فإنك قد فعلت ، قال : وَيْلَك بمن ؟ قال : بفلانة فدعاها موسى ، فقال : أنْشُدك بالذي أنزل التوراة ، أَصَدقَ قارون ؟ قالت : اللهمّ إذ نَشَدْتني ، فإني أشهد أنك برىء ، وأنك رسول الله ، وأن عدوّ الله قارون جعل لي جُعْلاً على أن أرميَك بنفسي قال : فوثب موسى ، فخرّ ساجدا لله ، فأوحى الله إليه أنِ ارفعْ رأسك ، فقد أمرت الأرض أن تطيعك ، فقال موسى : يا أرضُ خذيهم ، فأخذتهم حتى بلغوا الحِقْو ، قال : يا موسى قال : خذيهم ، فأخذتهم حتى بلغوا الصدور ، قال : يا موسى ، قال : خذيهم ، قال : فذهبوا . قال : فأوحى الله إليه يا موسى : استغاث بك فلم تغثه ، أما لو استغاث بي لأجبته ولأغثته .
حدثنا بشر بن هلال الصوّاف ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان الضبعيّ ، قال : حدثنا عليّ بن زيد بن جدعان ، قال : خرج عبد الله بن الحارث من الدار ، ودخل المقصورة فلما خرج منها ، جلس وتساند عليها ، وجلسنا إليه ، فذكر سليمانَ بنِ داود وَقالَ يا أيّها المَلأُ أيّكُمْ يَأْتِينِي بعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . . . إلى قوله إنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ ثم سكت عن ذكر سليمان ، فقال : إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وكان قد أوتي من الكنوز ما ذكر الله في كتابه ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالْعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ ، قالَ إنّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قال : وعادى موسى ، وكان مؤذيا له ، وكان موسى يصفح عنه ويعفو ، للقرابة ، حتى بنى دارا ، وجعل باب داره من ذهب ، وضرب على جدرانه صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يَغْدُون عليه ويروحون ، فيطعمهم الطعام ، ويحدّثونه ويضحكونه ، فلم تدعْه شِقوته والبلاء ، حتى أرسل إلى امرأة من بني إسرائيل مشهورة بالخَنَا ، مشهورة بالسّبّ ، فأرسل إليها فجاءته ، فقال لها : هل لك أن أُموّلك وأعطيَك ، وأخلطَك في نسائي ، على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي ، فتقولي : يا قارون ، ألا تنهى عَنّي موسى قالت : بلى . فلما جلس قارون ، وجاء الملأ من بني إسرائيل ، أرسل إليها ، فجاءت فقامت بين يديه ، فقلب الله قلبها ، وأحدث لها توبة ، فقالت في نفسها : لاَءَن أُحْدِث اليوم توبة ، أفضل من أن أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكذّب عدوّ الله له . فقالت : إن قارون قال لي : هل لك أن أمَوّلك وأعطيَك ، وأخلِطك بنسائي ، على أن تأتِيني والملأ من بني إسرائيل عندي ، فتقولي : يا قارون ألاَ تنهى عني موسى ، فلم أجد توبة أفضل من أن لا أُوذِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكذّب عدوّ الله فلما تكلمت بهذا الكلام ، سُقِط في يدي قارون ، ونكّس رأسه ، وسكت الملأ ، وعرف أنه قد وَقَع في هَلَكة ، وشاع كلامها في الناس ، حتى بلغ موسى فلما بلغ موسى اشتدّ غضبه ، فتوضأ من الماء ، وصلّى وبكى ، وقال : يا ربّ عدوّك لي مؤذ ، أراد فضيحتي وشَيْني ، يا ربّ سلطني عليه . فأوحى الله إليه أن مُرِ الأرض بما شئت تطعك . فجاء موسى إلى قارون فلما دخل عليه ، عرف الشرّ في وجه موسى له ، فقال : يا موسى ارحمني قال : يا أرض خذيهم ، قال : فاضطربت داره ، وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين ، وجعل يقول : يا موسى ، فأخذتهم إلى رُكَبهم ، وهو يتضرّع إلى موسى : يا موسى ارحمني قال : يا أرض خذيهم ، قال : فاضطربت داره وساخت ، وخُسف بقارون وأصحابه إلى سُرَرِهم ، وهو يتضرّع إلى موسى : يا موسى ارحمني قال : يا أرض خذيهم ، فخُسِف به وبداره وأصحابه . قال : وقيل لموسى صلى الله عليه وسلم : يا موسى ما أفظّك . أما وعزّتي لو إيايَ نادى لأجبته .
حدثني بشر بن هلال ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عِمران الجَوْنيّ ، قال : بلغني أنه قيل لموسى : لا أُعَبّدُ الأرض لأحد بعدك أبدا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، وعبد الحميد الحِمّاني ، عن سفيان ، عن الأغرّ بن الصباح ، عن خليفة بن حُصين ، قال : عبد الحميد ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس ، ولم يذكر ابن مهدي أبا نصر فَخَسَفنا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ قال : الأرض السابعة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : بلغنا أنه يخسف به كلّ يوم مِئَة قامة ، ولا يبلغ أسفل الأرض إلى يوم القيامة ، فهو يتجَلْجَل فيها إلى يوم القيامة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حبان ، عن جعفر بن سليمان ، قال : سمعت مالك بن دينار ، قال : بلغني أن قارون يُخْسَف به كلّ يوم مِئَة قامة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ذُكر لنا أنه يُخسَف به كلّ يوم قامة ، وأنه يتجلجل فيها ، لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة .
وقوله : فَمَا كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ يقول : فلم يكن له جند يرجع إليهم ، ولا فئة ينصرونه لما نزل به من سخطه ، بل تبرّءوا منه وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ يقول : ولا كان هو ممن ينتصر من الله إذا أحلّ به نقمته ، فيمتنع لقوّته منها . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فَمَا كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ أي جند ينصرونه ، وما عنده منعة يمتنع بها من الله .
وقد بيّنا معنى الفئة فيما مضى ، وأنها الجماعة من الناس ، وأصلها الجماعة التي يفيء إليها الرجل عند الحاجة إليهم ، للعون على العدوّ ، ثم تستعمل ذلك العرب في كلّ جماعة كانت عونا للرجل ، وظَهْرا له ومنه قول خفاف :
فَلَمْ أرَ مِثْلَهُمْ حَيّا لَقاحا *** وَجَدّكَ بينَ نَاضِحَةٍ وحَجْرِ
أشَدّ على صُرُوفِ الدّهْرِ آداو *** أكبرَ منهُمُ فِئَةً بِصَبْرِ
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فخسفنا به} يعني: بقارون {وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله} يقول الله عز وجل: لم يكن لقارون جند يمنعونه من الله عز وجل، {وما كان من المنتصرين} يقول: وما كان قارون من الممتنعين مما نزل به من الخسف.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فخسفنا بقارون وأهل داره. وقيل: وبداره... وقوله:"فَمَا كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ" يقول: فلم يكن له جند يرجع إليهم، ولا فئة ينصرونه لما نزل به من سخطه، بل تبرّءوا منه.
"وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ "يقول: ولا كان هو ممن ينتصر من الله إذا أحلّ به نقمته، فيمتنع لقوّته منها...
وقد بيّنا معنى الفئة فيما مضى، وأنها الجماعة من الناس، وأصلها الجماعة التي يفيء إليها الرجل عند الحاجة إليهم، للعون على العدوّ، ثم تستعمل ذلك العرب في كلّ جماعة كانت عونا للرجل وظَهْرا له...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فخسفنا به وبداره الأرض} بالبغي الذي بغى عليهم؛ أعني على موسى وأصحابه. وقوله تعالى: {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله} كأنه كان يفتخر بالمال والحواشي، ويتقوى بذلك في دفع عذاب الله ونقمته. لذلك قال: {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله} أي لم تغنه في دفع عذاب الله عنه أتباعه وحواشيه، وهو كظن أولئك: {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبإ: 35] وكان ظنهم ذلك.
لما أشر وبطر وعتا خسف الله به وبداره الأرض جزاء على عتوه وبطره، والفاء تدل على ذلك، لأن الفاء تشعر بالعلية.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته، وفخره على قومه وبغيه عليهم، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض، كما ثبت في الصحيح -عند البخاري من حديث الزهري، عن سالم- أن أباه حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة"...
وقوله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} أي: ما أغنى عنه مالُه، وما جَمَعه، ولا خدمه ولا حشمه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فخسفنا} أي بما لنا من العظمة {به وبداره} أي وهي على مقدار ما ذكرنا من عظمته بأمواله وزينته، فهي أمر عظيم، تجمع خلقاً كثيراً وأثاثاً عظيماً، لئلا يقول قائل: إن الخسف به كان للرغبة في أخذ أمواله {الأرض} وهو من قوم موسى عليه الصلاة والسلام وقريب منه جداً – على ما نقله أهل الأخبار – فإياكم يا أمة هذا النبي أن تردوا ما آتاكم من الرحمة برسالته فتهلكوا وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن الأنبياء كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدى، فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون لهم أبداً، إذا تحققوا أنهم من أهل الشقا {فما} أي فتسبب عن ذلك أنه ما {كان له} أي لقارون، وأكد النفي – لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون – بزيادة الجار في قوله: {من فئة} أي طائفة من الناس يكرون عليه بعد أن هالهم ما دهمه، وأصل الفئة الجماعة من الطير – كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعته إلى المكان الذي ذهبت منه {ينصرونه}.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{فخسفنا به وبداره الأرض} أي فزلزلت به الأرض وابتلعته جزاء بطره وعتوه وفي هذا عبرة لمن اعتبر، فيترك التعالي والتغالي في الزينة، لئلا يخسف الله به وبماله الأرض. وقد غفل كثير من الناس عن المقصد من المال فأنفقوه قاصدين به الرياء والمباهاة، فضاعت دورهم وأموالهم، وأصبحت ملكا لغيرهم، وهذا هو الخسف العظيم، وما خسف قارون بشيء إذا قيس بهذا، فإن الخسف الآن خسف الأمم، لا خسف الأفراد، فكل بلد من بلاد الإسلام يدخله الغاصب يصبح أهله عبيدا له وضحية مطامعه، وخسف أمة أدهى من خسف فرد، فليخسف الفرد، ولتبق الأمة، وهكذا دخلت البلاد تباعا في ملك الغاصب، واحدة إثر أخرى، ولم يبق منها إلا ما رحم الله، وما ذاك إلا بجهلها لدينها، وعدم اتباعها أحكامه، وغفلتها عن مقاصده.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما انتهت بقارون حالة البغي والفخر، وازَّيَّنَتْت الدنيا عنده، وكثر بها إعجابه، بغته العذاب {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} جزاء من جنس عمله، فكما رفع نفسه على عباد اللّه، أنزله اللّه أسفل سافلين، هو وما اغتر به، من داره وأثاثه، ومتاعه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغرائها، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما. ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا:
"فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان من المنتصرين"..
هكذا في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة: "فخسفنا به وبداره الأرض "فابتلعته وابتعلت داره، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا. وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.
وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله؛ وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال. وكان هذا المشهد الأخير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
دلت الفاء على تعقيب ساعة خروج قارون في ازدهائه وما جرى فيها من تمني قوم أن يكونوا مثله، وما أنكر عليهم علماؤهم من غفلتهم عن التنافس في ثواب الآخرة بتعجيل عقابه في الدنيا بمرأى من الذين تمنوا أن يكونوا مثله. والخسف: انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها... والباء في قوله {فخسفنا به} باء المصاحبة، أي خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو فيها... وهذا الخسف خارق للعادة لأنه لم يتناول غير قارون ومَن ظاهَره.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
الهداية: -بيان أن البغي يؤخذ به البغاة في الدنيا ويعذبون به في الآخرة.