قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } ، قرأ يعقوب : آزر بالرفع ، يعني آزر ، والقراءة المعروفة بالنصب ، وهو اسم أعجمي لا ينصرف ، فينصب في موضع الخفض ، قال محمد بن إسحاق ، والضحاك ، والكلبي : آزر اسم أبي إبراهيم ، وهو تارخ أيضاً ، مثل إسرائيل ويعقوب ، وكان من كوثى ، قرية من سواد الكوفة ، وقال مقاتل بن حيان وغيره : آزر لقب لأبي إبراهيم ، واسمه تارخ ، وقال سليمان التيمي : هو سب وعيب ، ومعناه في كلامهم المعوج ، وقيل : معناه الشيخ الهرم بالفارسية ، وقال سعيد بن المسيب ومجاهد : آزر اسم صنم ، فعلى هذا يكون في محل النصب تقديره : أتتخذ آزر إلهاً .
{ 74 - 83 } { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } إلى آخر القصة .
يقول تعالى : واذكر قصة إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد ، ونهيه عن الشرك ، وإذ قال لأبيه { آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } أي : لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء ، { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا ، وتركتم عبادة خالقكم ، ورازقكم ، ومدبركم .
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين . . وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين . . فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لا أحب الآفلين . فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي ، هذا أكبر ، فلما أفلت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وما أنا من المشركين ) .
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات . . مشهد الفطرة وهي - للوهلة الأولى - تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها . وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق ، الذي تجده في ضميرها ، ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها . وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله ! حتى إذا اختبرته وجدته زائفا ، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته . . ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها . وهي تنطلق بالفرحة الكبرى ، والامتلاء الجياش ، بهذه الحقيقة ، وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها ! . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم - عليه السلام - والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار . . إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل . وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ؛ ولا يجامل على حسابها أبا ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوما . . كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفه الصلبة الحاسمة الصريحة :
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين ) . .
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم . إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه - إلى إلهة - ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة - وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد ، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء ، والذي خلق الناس والأحياء . . هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر ، أو وثنا من خشب . . وإذا لم تكن هذه الاصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد ؛ وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد !
وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السلام - للوهلة الأولى . وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر الله الناس عليها . . ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين ، فتنكره وتستنكره ، وتجهر بكلمة الحق وتصدع ، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة :
( أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين ) . .
كلمة يقولها إبراهيم - عليه السلام - لأبيه . وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين ، كما ترد أوصافه في القرآن الكريم . ولكنها العقيدة هنا . والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة ، وفوق مشاعر الحلم والسماحة . وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها . والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا . .
قال الضحاك ، عن ابن عباس : إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزرُ ، إنما كان اسمه تارح . رواه ابن أبي حاتم .
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو عاصم شبيب ، حدثنا عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ } يعني بآزر : الصنم ، وأبو إبراهيم اسمه تارح ، وأمه اسمها مثاني ، وامرأته اسمها سارة ، وأم إسماعيل اسمها هاجر ، وهي سرية إبراهيم .
وهكذا قال غير واحد من علماء النسب : إن اسمه تارح . وقال مجاهد والسُّدِّي : آزر : اسم صنم .
قلت : كأنه غلب عليه آزر لخدمته ذلك الصنم ، فالله أعلم{[10905]}
وقال ابن جرير : وقال آخرون : " هو سب{[10906]} وعيب بكلامهم ، ومعناه : مُعْوَج " ولم يسنده ولا حكاه عن أحد .
وقد قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن مُعْتَمِر بن سليمان ، سمعت أبي يقرأ : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ } قال : بلغني أنها أعوج ، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم ، عليه السلام .
ثم قال ابن جرير : والصواب أن اسم أبيه آزر . ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح ، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان ، كما لكثير من الناس ، أو يكون أحدهما لقبا{[10907]} وهذا الذي قاله جيد قوي ، والله أعلم .
واختلف القراء في أداء قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ } فحكى ابن جرير عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني أنهما كانا يقرآن : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } معناه : يا آزر ، أتتخذ أصناما آلهة .
وقرأ الجمهور بالفتح ، إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف ، وهو بدل من قوله : { لأبِيهِ } أو عطف بيان ، وهو أشبه .
وعلى قول من جعله نعتًا لا ينصرف أيضا كأحمر وأسود .
فأما من زعم أنه منصوب لكونه معمولا لقوله : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا } تقديره : يا أبت ، أتتخذ آزر أصناما آلهة ، فإنه قول بعيد في اللغة ؛ لأن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ؛ لأن له صدر الكلام ، كذا قرره ابن جرير وغيره . وهو مشهور في قواعد العربية .
والمقصود أن إبراهيم ، عليه السلام ، وعظ أباه في عبادة الأصنام ، وزجره عنها ، ونهاه فلم ينته ، كما قال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } أي : أتتأله لصنم تعبده من دون الله ، { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } أي : السالكين مسلكك { فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : تائهين لا يهتدون أين يسلكون ، بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل صحيح .
وقال تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } [ مريم : 41 - 48 ] ، فكان إبراهيم ، عليه السلام ، يستغفر لأبيه مدة حياته ، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك ، رجع عن الاستغفار له ، وتبرأ منه ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] .
وثبت في الصحيح : أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة فيقول له أبوه : يا بني ، اليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : أي رب ، ألم تعدني أنك لا{[10908]} تخزني يوم يبعثون{[10909]} وأي خزي أخزي من أبي الأبعد ؟ فيقال : يا إبراهيم ، انظر ما وراءك . فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه ، فيلقى في النار{[10910]}