معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

قوله تعالى : { وجاهدوا في الله حق جهاده } قيل : جاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه ، قاله ابن عباس : وعنه أيضاً أنه قال : لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد ، كما قال تعالى : { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } قال الضحاك و مقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته . وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال أكثر المفسرين : حق الجهاد أن تكون نيته خالصةً لله عز وجل . وقال السدي : هو أن يطاع فلا يعصى . وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر ، وهو حق الجهاد . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار ، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس{ هو اجتباكم } يعني : اختاركم لدينه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ضيق ، معناه : أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجاً ، بعضها بالتوبة ، وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بأنواع الكفارات ، فليس في دين الإسلام ذنب لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه . وقيل : من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم ، وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا . وقال مقاتل : يعني الرخص عند الضرورات ، كقصر الصلاة في السفر ، والتيمم عند فقد الماء وأكل الميتة عند الضرورة ، والإفطار بالسفر والمرض ، والصلاة قاعداً عند العجز . وهو قول الكلبي . وروي عن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني إسرائيل من الأعمال التي كانت عليهم ، وضعها الله عن هذه الأمة . { ملة أبيكم إبراهيم } يعني : كلمة أبيكم ، نصب بنزع حرف الصفة . وقيل : نصب على الإغراء ، أي اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم ، وإنما أمرنا باتباع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : فما وجه قوله : { ملة أبيكم } وليس كل المسلمين يرجع نسبهم إلى إبراهيم . قيل : خاطب به العرب وهم كانوا من نسل إبراهيم . وقيل : خاطب به جميع المسلمين ، وإبراهيم أب لهم ، على معنى وجوب احترامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، وهو كقوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم مثل الوالد " { هو سماكم } يعني : إن الله تعالى سماكم { المسلمين من قبل } يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة . { وفي هذا } يعني : في هذا الكتاب ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال ابن زيد ( ( هو ) ) يرجع إلى إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه ، من قبل هذا الوقت ، وفي هذا الوقت ، وهو قوله : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمة لك } { ليكون الرسول شهيداً عليكم } يوم القيامة أن قد بلغكم ، { وتكونوا } أنتم ، { شهداء على الناس } أن رسلهم قد بلغتهم ، { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله } ثقوا بالله وتوكلوا عليه . قال الحسن : تمسكوا بدين الله . وروي عن ابن عباس قال : سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره . وقيل : معناه ليثبتكم على دينه . وقيل : الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة ، { هو مولاكم } وليكم وناصركم وحافظكم ، { فنعم المولى ونعم النصير } الناصر لكم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } والجهاد بذل الوسع في حصول الغرض المطلوب ، فالجهاد في الله حق جهاده ، هو القيام التام بأمر الله ، ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك ، من نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ووعظ ، وغير ذلك .

{ هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي : اختاركم -يا معشر المسلمين- من بين الناس ، واختار لكم الدين ، ورضيه لكم ، واختار لكم أفضل الكتب وأفضل الرسل ، فقابلوا هذه المنحة العظيمة ، بالقيام بالجهاد فيه حق القيام ، ولما كان قوله : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } ربما توهم متوهم أن هذا من باب تكليف ما لا يطاق ، أو تكليف ما يشق ، احترز منه بقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : مشقة وعسر ، بل يسره غاية التيسير ، وسهله بغاية السهولة ، فأولا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس ، لا يثقلها ولا يؤودها ، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف ، خفف ما أمر به ، إما بإسقاطه ، أو إسقاط بعضه . ويؤخذ من هذه الآية ، قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " فيدخل في ذلك من الأحكام الفرعية ، شيء كثير معروف في كتب الأحكام .

{ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } أي : هذه الملة المذكورة ، والأوامر المزبورة ، ملة أبيكم إبراهيم ، التي ما زال عليها ، فالزموها واستمسكوا بها .

{ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } أي : في الكتب السابقة ، مذكورون ومشهورون ، { وَفِي هَذَا } أي : هذا الكتاب ، وهذا الشرع . أي : ما زال هذا الاسم لكم قديما وحديثا ، { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ } بأعمالكم خيرها وشرها { وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } لكونكم خير أمة أخرجت للناس ، أمة وسطا عدلا خيارا ، تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم ، وتشهدون على الأمم أن رسلهم بلغتهم بما أخبركم الله به في كتابه ، { فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } بأركانها وشروطها وحدودها ، وجميع لوازمها ، { وَآتُوا الزَّكَاةَ } المفروضة لمستحقيها شكرا لله على ما أولاكم ، { وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ } أي : امتنعوا به وتوكلوا عليه في ذلك ، ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم ، { هُوَ مَوْلَاكُمْ } الذي يتولى أموركم ، فيدبركم بحسن تدبيره ، ويصرفكم على أحسن تقديره ، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } أي : نعم المولى لمن تولاه ، فحصل له مطلوبه { وَنِعْمَ النَّصِيرُ } لمن استنصره فدفع عنه المكروه .

تم تفسير سورة الحج ، والحمد لله رب العالمين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

وبعد أن أمر - سبحانه - بالصلاة وبالعبادة وبفعل الخير ، أتبع ذلك بالأمر بالجهاد فقال - تعالى - : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ } .

والجهاد مأخوذ من الجهد ، وهو بذل أقصى الطاقة فى مدافعة العدو .

وهى أنواع ، أعظمها : جهاد أعداء الله - تعالى - من الكفار والمنافقين والظالمين والمبتدعين فى دين الله - تعالى - ما ليس منه .

كذلك من أنواع الجهاد : جهاد النفس الأمارة بالسوء ، وجهاد الشيطان .

وإضافة " حق " إلى " جهاد " فى قوله : { حَقَّ جِهَادِهِ } من إضافة الصفة التى إلى الموصوف أى : وجاهدوا - أيها المؤمنون - فى سبيل الله - تعالى - ومن أجل إعلاء كلمته ، ونصر شريعته ، جهادا كاملا صادقا لا تردد معه ولا تراجع .

قال صاحب الكشاف : قوله : { وَجَاهِدُوا . . . . } أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى . وهو الجهاد الأكبر . عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه رجع من بعض غزواته فقال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " { فِي الله } أى : فى ذات الله ومن أجله . يقال : هو حق عالم ، وجد عالم ، ومنه { حَقَّ جِهَادِهِ } .

فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه ، أو حق جهادكم فيه ، كما قال : { وَجَاهِدُوا فِي الله } ؟

قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص . فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه . . .

وجملة " هو اجتباكم " مستأنفة ، لبيان علة الأمر بالجهاد ، والاجتباء : الاختيار والاصطفاء .

أى : جاهدوا - أيها المؤمنون - من أجل إعلاء كلمة الله ، لأنه - سبحانه - هو الذى اختاركم للذب عن دينه ، واصطفاكم لحرب أعدائه ، وجدير بمن اختاره الله واصطفاه أن يكون مطيعا له .

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر لطفه بعباده فقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } .

أى : ومن مظاهر رحمته بكم - أيها المؤمنون - أنه سبحانه لم يشرع فى هذا الدين الذى تدينون به ما فيه مشقة بكم ، أو ضيق عليكم : وإنما جعل أمر هذا الدين ، مبنى على اليسر والتخفيف ورفع الحرج ، ومن قواعده التى تدل على ذلك : أن الضرر يزال . وأن المشقة تجلب التيسير : وأن اليقين لا يرفع بالشك ، وأن الأمور تتبع مقاصدها ، وأن التوبة الصادقة النصوح تجب ما قبلها من ذنوب .

ومن الآيات التى تدل على أن هذا الدين مبنى على التيسير ورفع الحرج قوله - تعالى - : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا . . } وقوله - سبحانه - : { . . . يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر . . . } وفى الحديث الشريف : " بعثت بالحنيفية السمحاء " .

قال بعض العلماء : وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا ، بين المشقة فى الأحكام الشرعية ، وبين الحرج والعسر فيها ، فإن الأولى حاصلة وقلما يخلو منها تكليف شرعى ، إذ التكليف هو التزام ما فيه كلفة ومشقة ، أما المشقة الزائدة عن الحد التى تصل إلى حد الحرج ، فهى المرفوعة عن المكلفين .

فقد فرض الله الصلاة على المكلف ، وأوجب عليه أداءها ، وهذا شىء لا حرج فيه . ثم هو إذا لم يستطيع الصلاة من قيام ، فله أن يؤديها وهو قاعد أو بالإيماء . . . وهكذا جميع التكاليف الشرعية .

والخلاصة : أن هذا الدين الذى جاءنا به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه - عز وجل - مبنى على التخفيف والتيسير ، لا على الضيق والحرج ، والذين يجدون فيه ضيقا وحرجا ، هم الناكبون عن هديه ، الخارجون على تعالميه .

ورحم الله الإمام القرطبى فق قال : " رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع ، وأما السراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج ، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين . . . " .

والمراد بالملة فى قوله - تعالى - : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } الدين والشريعة ، ولفظ " ملة " هنا منصوب بنزع الخافض .

أى : ما جعل عليكم - أيها المؤمنون - فى دينكم من حرج ، كما لم يجعل ذلك - أيضا - فى لمة أبيكم إبراهيم .

ويصح أن يكون منصوبا على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفى الحرج بعد حذف المصدر المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه . أى : وسع عليكم فى دينكم توسعة ملة إبيكم إبراهيم .

ووصف - سبحانه - إبراهيم - عليه السلام - بالأبوة لهذه الأمة ، لأن رسول هذه الأمة - صلى الله عليه وسلم - ينتهى نسبه إلى إبراهيم ، ورسول هذه الأمة - صلى الله عليه وسلم - كالأب لها ، من حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - جاءها من عند ربه - عز وجل - بما يحييها ويسعدها .

والضمير " هو " فى قوله - تعالى - : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا . . . } يعود إلى الله - تعالى - أى : هو - سبحانه - الذى سماكم المسلمين من قبل نزول القرآن . وسماكم - أيضا - بهذا الإسم فى هذا القرآن .

وقيل : الضمير " هو " يعود إلى إبراهيم أى : إبراهيم هو الذى سماكم المسلمين .

ومن وجوه ضعف هذا القول : أن اللن - تعالى - قال : { وَفِي هذا } أى سماكم المسلمين فى هذا القرآن ، وإبراهيم - عليه السلام - لحق بربه قبل نزول هذا القرآن بآزمان طويلة ، وأيضا فإن السياق يؤيد أن الضمير " هو " يعود إلى الله - تعالى - لأن الأفعال السابقة كقوله { هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } تعود إليه - عز وجل - .

ثم بين - سبحانه - أسباب هذا الاجتباء والاصطفاء فقال : { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } .

والمراد بشهادة الرسول على أمته : الإخبار بأنه قد بلغهم رسالة ربه .

والمراد بشهادة هذه الأمة على غيرها من الناس : الإخبار بأن الرسل الذين أرسلهم الله - تعالى - إلى هؤلاء الناس ، قد بلغوهم رسالة ربهم ، ونصحوهم بإخلاص العبادة لله وحده .

ويؤيد ذلك ما رواه البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يدعى نوح - عليه السلام - يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب . فيقا له : هل بلغت ما أرسلت به ؟ فيقول : نعم . فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقال له : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، فيشهدون أنه قد بلغ " .

وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } والمعنى : فعلنا ما فعلنا من اجتبائكم ، والتيسير عليكم ، وتسميتكم بالمسلمين ، ليكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أمر بتبليغه إليكم ، ولتكونوا أنتم شهداء على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم رسالة ربهم .

وما دام الأمر كذلك { فَأَقِيمُواْ الصلاة } أيها المؤمنون بأن تؤدوها فى أوقاتها بإخلاص وخشوع { وَآتُواْ الزكاة } التى كلفكم الله - تعالى - بإيتائها إلى مستحقيها { واعتصموا بالله } أى : التجئوا إليه ، واستعينوا به فى كل أموركم فإنه - سبحانه - { هُوَ مَوْلاَكُمْ } أى : ناصركم ومتولى شئونكم ، ومالك أمركم ، وهو - تعالى - { نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } أى : هو - عز وجل - نعم المالك لأمركم ، ونعم النصير القوى لشأنكم .

وبعد : فهذه سورة الحج ، وهذا تفسير محرر لها .

نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

{ وجاهدوا فِى الله حَقَّ جهاده }

الجهاد بصيغة المفاعلة حقيقة عرفية في قتال أعداء المسلمين في الدّين لأجل إعلاء كلمة الإسلام أو للدفع عنه كما فسرّه النبي صلى الله عليه وسلم « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » . وأن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين قفل من غزوة تبوك قال لأصحابه : « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر » وفسّره لهم بمجاهدة العبد هواه ، فذلك محمول على المشاكلة بإطلاق الجهاد على منع داعي النفس إلى المعصية .

ومعنى ( في ) التعليل ، أي لأجل الله ، أي لأجل نصر دينه كقول النبي صلى الله عليه وسلم « دخلت امرأة النارَ في هِرّة » أي لأجل هِرة ، أي لعمل يتعلق بهرّة كما بيّنه بقوله : « حَبَسَتْها لا هِيَ أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً » . وانتصب { حق جهاده } على المفعول المطلق المبيّن للنوع ، وأضيفت الصفة إلى الموصوف ، وأصله : جهادَه الحقّ ، وإضافة جهاد إلى ضمير الجلالة لأدنى ملابسة ، أي حق الجهاد لأجله ، وقرينة المراد تقدّم حرف ( في ) كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] .

والحق بمعنى الخالص ، أي الجهاد الذي لا يشوبه تقصير .

والآية أمر بالجهاد ، ولعَلّها أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأنّ السورة بعضها مكي وبعضها مدنيّ ولأنه تقدم آنفاً قوله : { ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله } [ الحج : 60 ] ، فهذا الآن أمر بالأخذ في وسائل النصر ، فالآية نزلت قبل وقعة بدر لا محالة .

{ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ وَفِى هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس }

جملة { هو اجتباكم } إن حملت على أنها واقعة موقع العلة لما أمروا به ابتداء من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] الخ ، أي لأنه لما اجتباكم ، كان حقيقاً بالشكر له بتلك الخصال المأمور بها .

والاجتباء : الاصطفاء والاختبار ، أي هو اختاركم لتلقي دينه ونشره ونصره على معانديه . فيظهر أن هذا موجّه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة ويشركهم فيه كل من جاء بعدهم بحكم اتّحاد الوصف في الأجيال كما هو الشأن في مخاطبات التشريع .

وإن حمل قوله { هو اجتباكم } على معنى التفضيل على الأمم كان ملحوظاً فيه تفضيل مجموع الأمة على مجموع الأمم السابقة الراجع إلى تفضيل كل طبقة من هذه الأمة على الطبقة المماثلة لها من الأمم السالفة .

وقد تقدم مثل هذين المحملين في قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] .

وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدّين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله ديناً لا حرج فيه لأنّ ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله ، وقد امتنّ الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن ، منها قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] . ووصفهِ الدين بالحنيف ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم « بُعِثت بالحنيفيّة السّمحة » . والحرج : الضيق ، أطلق على عسر الأفعال تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ثمّ شاع ذلك حتى صار حقيقة عُرفية كما هنا .

والمِلّة : الدين والشريعة . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } في [ سورة النحل : 123 ] . وقوله : { واتبعت ملة آباءي } في [ سورة يوسف : 38 ] .

وقوله { ملة أبيكم إبراهيم } زيادة في التنويه بهذا الدّين وتحْضيض على الأخذ به بأنه اختص بأنه دين جاء به رسولان إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وهذا لم يستتب لدين آخر ، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « أنا دعوة أبي إبراهيم » أي بقوله : { ربّنا وابْعَث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] ، وإذ قد كان هذا هو المقصود فمحمل الكلام أنّ هذا الدّين دين إبراهيم ، أي أنّ الإسلام احتوى على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام . ومعلوم أن للإسلام أحكاماً كثيرة ولكنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه غيره من الشرائع الأخرى من دين إبراهيم ، جعل كأنه عين ملّة إبراهيم ، فعلى هذا الاعتبار يكون انتصاب { ملة أبيكم إبراهيم } على الحال من { الدّين } باعتبار أن الإسلام حوى ملّة إبراهيم .

ثم إن كان الخطاب موجّهاً إلى الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فإضافة أبوة إبراهيم إليهم باعتبار غالب الأمة ، لأنّ غالب الأمة يومئذ من العرب المُضَرية وأمّا الأنصار فإن نسبهم لا ينتمي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنّهم من العرب القحطانيين ؛ على أن أكثرهم كانت لإبراهيم عليهم ولادة من قِبل الأمهات .

وإن كان الخطاب لعموم المسلمين كانت إضافة أبوة إبراهيم لهم على معنى التشبيه في الحُرمة واستحقاق التعظيم كقوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] ، ولأنه أبو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد له مقام الأبوة للمسلمين وقد قرىء قوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] بزيادة وهو أبوهم .

ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم على طريقة التعظيم كأنه قال : ملّة أبيك إبراهيم .

والضمير في { هو سماكم المسلمين } عائد إلى الجلالة كضمير { هو اجتباكم } فتكون الجملة استئنافاً ثانياً ، أي هو اجتباكم وخصّكم بهذا الاسم الجليل فلم يعطه غيركم ولا يعود إلى إبراهيم .

و { قبْلُ } إذا بني على الضم كان على تقدير مضاف إليه منوي بمعناه دون لفظه .

والاسم الذي أضيف إليه { قبلُ } محذوف ، وبني { قبلُ } على الضم إشعاراً بالمضاف إليه . والتقدير : من قبل القرآن . والقرينة قوله { وفي هذا } ، أي وفي هذا القرآن .

والإشارة في قوله { وفي هذا } إلى القرآن كما في قوله تعالى : { ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } [ الأحقاف : 4 ] ، أي وسماكم المسلمين في القرآن . وذلك في نحو قوله : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } [ آل عمران : 64 ] وقوله : { وأمرت لأن أكون أول المسلمين } [ الزمر : 12 ] .

واللاّم في قوله { ليكون الرسول شهيداً عليكم } يتعلّق بقوله { اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] أو بقوله { اجتباكم } أي ليكون الرسول ، أي محمد عليه الصلاة والسلام شهيداً على الأمة الإسلامية بأنها آمنت به ، وتكون الأمة الإسلامية شاهدة على النّاس ، أي على الأمم بأن رسلهم بلغوهم الدعوة فكفر بهم الكافرون . ومن جملة الناس القوم الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وقدمت شهادة الرسول للأمة هنا ، وقدمت شهادة الأمة في آية [ البقرة : 143 ] { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } لأن آية هذه السورة في مقام التنويه بالدّين الذي جاء به الرسول . فالرسول هنا أسبق إلى الحضور فكان ذكر شهادته أهم ، وآية البقرة صُدّرت بالثناء على الأمّة فكان ذكر شهادة الأمة أهمّ . { فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة واعتصموا بالله هُوَ مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير }

تفريع على جملة { هو اجتباكم } وما بعدها ، أي فاشكروا الله بالدوام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله .

والاعتصام : افتعال من العَصْم ، وهو المنع من الضُرّ والنجاةُ ، قال تعالى : { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله } [ هود : 43 ] ، وقال النابغة :

يظل من خوفه الملاحُ مُعتصماً *** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجد

والمعنى : اجعلوا الله ملجأكم ومنجاكم .

وجملة { هو مولاكم } مستأنفة معلّلة للأمر بالاعتصام بالله لأنّ المولى يُعتصم به ويُرجع إليه لعظيم قدرته وبديع حكمته .

والمولى : السيد الذي يراعي صلاح عبده .

وفرع عليه إنشاء الثناء على الله بأنه أحسن مولى وأحسن نصير . أي نِعم المدبر لشؤونكم ، ونِعم الناصر لكم . ونصير : صيغة مبالغة في النصر ، أي نِعم المولى لكم ونِعم النصير لكم . وأما الكافرون فلا يتولاّهم تولي العناية ولا ينصرهم .

وهذا الإنشاء يتضمّن تحقيق حسن ولايَة الله تعالى وحسن نصره . وبذلك الاعتبار حسن تفريعه على الأمر بالاعتصام به .

وهذا من براعة الختام ، كما هو بَيّن لذوي الأفهام