قوله تعالى : { ثم ننجي الذين اتقوا } أي : اتقوا الشرك ، وقرأ الكسائي ( ننجي ) بالتخفيف ، والباقون بالتشديد ، { ونذر الظالمين فيها جثياً } جميعاً . وقيل : جاثين على الركب ، وفيه دليل على أن الكل دخلوها ثم أخرج الله منها المتقين ، وترك فيها الظالمين ، وهم المشركون .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : " هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب ، قالوا : لا ، قال : فإنكم ترونه كذلك ، يحشر الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ، ومنهم من يتبع الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله عز وجل فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا فيدعوهم ، ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم ، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان ؟ قالوا نعم قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله ، تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم من يوبق بعلمه ، ومنهم من يجردل ثم ينجو ، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله ، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود ، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار ، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود ، فيخرجون من النار قد امتحشوا ، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ، ويبقى رجل بين الجنة والنار ، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة ، مقبل بوجهه قبل النار ، فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار ، قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها ، فيقول : هل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غير ذلك ؟ فيقول : لا ، وعزتك . فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق ، فيصرف الله وجهه عن النار ، فإذا أقبل به على الجنة رأى بهجتها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم قال : يا رب قدمني عند باب الجنة ، فيقول الله تبارك وتعالى : أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت ، فيقول : يا رب لا أكون أشقى خلقك ، فيقول : فما عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره ؟ فيقول : لا وعزتك لا أسألك غير ذلك ، فيعطى ربه ما شاء من عهد وميثاق ، فيقدمه إلى باب الجنة ، فإذا بلغ باباها ورأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور ، فسكت ما شاء الله أن يسكت ، فيقول يا رب أدخلني الجنة ، فيقول الله تعالى : ويحك يا ابن آدم ما أغدرك ، أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت ؟ فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فيضحك الله منه ، ثم يأذن له في دخول الجنة ، فيقول : تمن ، فيتمنى حتى إذ انقطع أمنيته ، قال الله تعالى : تمن كذا وكذا ، أقبل يذكره ربه ، حتى إذا انتهت به الأماني ، قال الله تعالى : لك ومثله معه " . قال أبو سعيد لأبي هريرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله لك ذلك وعشرة أمثاله " قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله : " لك ذلك ومثله معه " . قال أبو سعيد إني سمعته يقول : " ذلك لك وعشرة أمثاله " . ورواه محمد بن إسماعيل عن محمود بن غيلان ، أنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي هريرة بمعناه ، وقال : " فيأتيهم الله عز وجل في غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا أتانا ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا ، فيتبعونه " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعذب أناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ، ثم تدركهم الرحمة ، قال : فيخرون فيطرحون على أبواب الجنة ، قال : فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما تنب القثاء في حمالة السيل ، ثم يدخلون الجنة " .
أخبرنا أبو محمد بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، أنا أبو عيسى الترمذي ، أنا هناد بن السري ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن عبيدة السلماني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار رجل يخرج منها زحفاً فيقال له : انطلق فادخل الجنة ، قال : فيذهب ليدخل الجنة فيجد الناس قد أخذوا المنازل ، فيرجع فيقول : يا رب قد أخذ الناس المنازل ، فيقال : أتذكر الزمان الذي كنت فيه ؟ فيقول : نعم فيقال له : تمن ، فيتمنى ، فيقال له : فإن لك الذي تمنيته وعشرة أضعاف الدنيا ، قال فيقول : أتسخر بي وأنت الملك ؟ قال : فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن أم مبشر ، عن حفصة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية ، قال : قلت يا رسول الله أليس قد قال تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً } ؟ قال : أفلم تسمعيه يقول : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } " .
{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } الله تعالى بفعل المأمور ، واجتناب المحظور { وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { فِيهَا جِثِيًّا } وهذا بسبب ظلمهم وكفرهم ، وجب لهم{[512]} الخلود ، وحق عليهم العذاب ، وتقطعت بهم الأسباب .
يضاف إلى ذلك أن قوله - تعالى - بعد هذه الآية : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } قرينة قوية على أن المراد بقوله { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا .
. . } أى : داخلها سواء أكان مؤمناً أم كافراً ، إلا أنه - سبحانه - بفضله وكرمه ينجى الذين اتقوا من حرها ، ويترك الظالمين يصطلون بسعيرها .
كذلك مما يشهد بأن الورود بمعنى الدخول ، ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد ؛ والترمذى ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، والحاكم . . . عن أبى سمية قال : اختلفنا فى الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن ، وقال آخرون يدخلونها جميعاً ، ثم ينجى الله الذين اتقوا .
قال : فلقيت جابر بن عبد الله - رضى الله عنهما - فذكرت له ذلك فقال - وأهوى بإصبعه على أذنيه - صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً ، كما كانت على إبراهيم ؛ حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم ، ثم ينجى الله الذين اتقوا ، ويذر الظالمين فيها جثيا " .
ولا يمنع من كون الورود بمعنى الدخول قوله - تعالى - { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا . . . } لأن دخول المؤمنين فيها لا يجعلهم يشعرون بحرها أو حسيسها ، وإنما هى تكون برداً وسلاماً عليهم ، كما جاء فى الحديث الشريف .
قال الإمام القرطبى بعد أن توسع فى ذكر هذه الأقوال : " وظاهر الورود الدخول . . . إلا أنها تكون برداً وسلاماً على المؤمنين ، وينجون منها سالمين . قال خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يقل ربنا : إنا نرد النار فيقال لهم : لقد وردتموها فألفيتموها رماداً .
قلت : وهذا القول يجمع شتات الأقوال ، فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها ، فقد أبعد عنها ونجى منها ، نجانا الله - تعالى - منها بفضله وكرمه ، وجعلنا ممن وردها فدخلها سالماً ، وخرج منها غانماً .
فإن قيل : فهل يدخل الأنبياء النار ؟ قلنا : لا نطلق هذا ، ولكن نقول : إن الخلق جميعاً يردونها - كما دل عليه حديث جابر - فالعصاة يدخلونها بجرائمهم ، والأولياء والسعداء لشفاعتهم ، فبين الدخولين بون . . . " .
والمعنى : وما منكم - أيها الناس - أحد إلا وهو داخل النار ، سواء أكان مسلماً أم كافراً ، إلا أنها تكون برداً وسلاماً على المؤمنين . وهذا الدخول فيها كان على ربك أمراً واجباً ومحتوماً ، بمقتضى حكمته الإلهية ، لا بإيجاب أحد عليه .
{ ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } أى : ثم بعد دخول الناس جميعاً النار ، ننجى الذين اتقوا ، فنخرجهم منها دون أن يذوقوا حرها { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } أى : ونترك الظالمين فى النار مخلدين فيها . جاثين على ركبهم ، عاجزين عن الحركة ، من شدة ما يصيبهم من هولها وسعيرها .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا أقوال الجاحدين فى شأن البعث والحساب ، وردت عليهم رداً يبطل اقوالهم ، كما أثبتت أن البعث حق ، وأن الحساب حق ، وأن الظالمين سيدخلون النار ، وأن المؤمنين سينجيهم الله - تعالى - بفضله منها .
وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «ثم ننجي » بفتح الثاء من «ثَم » على الظرف ، وقرأ ابن أبي ليلى «ثَمة » بفتح الثاء وهاء السكت ، وقرأ نافع وابن كثير وجمهور من الناس «ننَجّي » بفتح النون الثانية وشد الجيم ، وقرأ يحيى والأعمش «ننْجي » بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم ، وقرأت فرقة «نُجّي » بنون واحدة مضمونة وجيم مشددة ، وقرأ علي بن أبي طالب «ثَم » بفتح الثاء «ننحي » بالحاء غير منقوطة . و { الذين اتقوا } معناه اتقوا الكفر ، وقال بعض العلماء لا يضيع أحد بين الإيمان والشفاعة . { ونذر } دالة على أنهم كانوا فيها ، والظلم هنا هو ظلم الكفر ، وقد تقدم القول في قوله { جثياً } ، وقرأ ابن عباس «الذين اتقوا منها ونترك الظالمين » .