اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا} (72)

ويدلُّ عليه أيضاً قوله تعالى{[22132]} { ثُمَّ نُنَجِّي{[22133]} الذينَ اتَّقَوْا }{[22134]} ، أي : ننجي من الواردين من اتقى ، ولا يجوز أن يقول " ثُمَّ نُنجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " إلاَّ والكل واردون . والأخبار المروية دل على هذا القول ، وهو ما روي عن عبد الله بن رواحة{[22135]} قال{[22136]} : أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصد{[22137]} ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم{[22138]} " يا ابن رواحة " {[22139]} اقرأ ما بعدها " ثُمَّ نُنَجِّي{[22140]} الذين اتقوا " {[22141]} فدلَّ على أنَّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر{[22142]} أنَّه سُئِلَ عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الورودُ الدخولُ ، ولا يبقى بردٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً ، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها{[22143]} " {[22144]} .

وقيل : المراد{[22145]} من تقدم ذكره من الكفار ، فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة . قالوا : ولا يجوز أن يدخل الناء مؤمن أبداً لقوله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا }{[22146]} والمبعد{[22147]} عنها لا يوصف بأنه واردها ، ولو وردوا{[22148]} جهنم لسمعوا{[22149]} حسيسها .

وقوله : { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ }{[22150]} [ النمل : 89 ] . والمراد في قوله{[22151]} : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الحضور والرؤية لا الدخول ، كقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ }{[22152]} أراد به الحضور . وقال عكرمة : الآية في الكفار يدخلونها ولا يخرجون منها .

وقال ابن مسعود : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } يعني القيامة والكناية راجعة إليها{[22153]} .

وقال البغوي{[22154]} : والأول أصح{[22155]} ، وعليه أهل السنة أنهم جميعاً يدخلون النار ، ثم يخرج الله منها أهل الإيمان ، لقوله تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } أي : الشرك ، وهم المؤمنون ، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه{[22156]} .

قوله : { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } أي : كان{[22157]} ورودكم جهنم حتماً لازماً مقضياً قضاه الله عليكم{[22158]} .

قوله : { ثُمَّ نُنَجِّي } . قرأ العامة : ثُمَّ نُنَجِّي " {[22159]} بضم " ثُمَّ " على أنَّها العاطفة{[22160]} .

وقرأ علي بن أبي طالب{[22161]} -رضي الله عنه- وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي{[22162]} ، والجحدري{[22163]} ويعقوب{[22164]} " ثَمَّ " بفتحها{[22165]} على أنَّها الظرفية{[22166]} ، ويكون منصوباً بما بعده{[22167]} ، أي : هُناك نُنَجِّي الذين اتََّقَوا .

وقرأ الجمهور " نُنَجِّي " {[22168]} بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم من نجَّى مضعفاً{[22169]} . وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن{[22170]} " نُنَجِي " من أنْجَى{[22171]} .

والفعل على هاتين القراءتين مضارع{[22172]} .

وقرأت فرقة{[22173]} " نُجِّي " بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة{[22174]} ، وهو على هذه القراءة ماض مبني للمفعول ، وكان من حق قارئها أن يفتح الياء ، ولكنه سكنه تخفيفاً .

وتحتمل هذه القراءة توجيهاً آخر سيأتي في قراءة متواترة في آخر سورة الأنبياء{[22175]} .

وقرأ علي بن أبي طالب -أيضاً- " نُنَحِّي " بحاء مهملة{[22176]} من التنحية{[22177]} .

ومفعول " اتَّقَوْا " {[22178]} محذوف مراد للعلم به ، أي : اتقوا الشرك والظلم{[22179]} .

قوله : { جِثِيًّا } إمَّا مفعول ثان إن كان " نَذَرُ " يتعدى لاثنين بمعنى أن " نترك ونصير " {[22180]} .

وإمَّا حال إن جعلت " نَذَرُ " بمعنى نخليهم . و " جَثِيًّا " على ما تقدم{[22181]} .

و " فيها " يجوز أن يتعلق ب " نَذَرُ " ، وأن يتعلق ب " جِثِيًّا " إن كان حالاً{[22182]} ولا يجوز ذلك فيه إن كان مصدراً{[22183]} ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال{[22184]} من " جِثِيًّا " ، لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم{[22185]} عليها فنصب حالاً{[22186]} .

فصل

اختلفوا في أنَّه كيف يندفع{[22187]} عن المتقين ضرر النار إذا ورودها بأنَّ القول هو الدخول{[22188]} . فقيل : " البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ، وإذا كان كذلك لا يمتنع " {[22189]} أن يدخل{[22190]} الكل في جهنم ، ويكون المؤمنون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار في وسط النار ، وعن جابر أنَِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول بعضهم لبعض : أليس{[22191]} وعدنا ربنا{[22192]} أن نرد النار ؟ فيقال لهم : قد دخلتموها{[22193]} وهي خامدة " {[22194]} .

وقيل : إنَّ الله -تعالى- يخمد النار فيعبرها المؤمنون ، وتنهار بالكافرين . قال{[22195]} ابن عباس : يردونها كأنَّها إهالة{[22196]} . وقيل : إنَّ الله -تعالى- يجعل النار الملاصقة لأبدان المؤمنين برداً وسلاماً كما جاء في الحديث المتقدم{[22197]} ، وكما في حق إبراهيم -عليه السلام{[22198]}- ، وكما في حق{[22199]} الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فيكون دماً ، ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً ، وفي الحديث : " تقول النار للمؤمن{[22200]} جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " {[22201]} . وعن مجاهد في قوله تعالى { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : من حُمَّ من المسلمين فقد وردها . وفي الخبر " الحمى كنز من جهنم ، وهي حظ المؤمن من النار " {[22202]} واعلم أنه لا بُدَّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين . فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول ؟ فالجواب : أنَّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه . وأيضاً : فيه مزيد غم على أهل{[22203]} النار حيث تظهر فضيحتهم عند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه وأيضاً : إن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فيزداد غم{[22204]} الكفار وسرور المؤمنين . وأيضاً : فإن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ، ويستدلون على ذلك ، فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوه ، وأنَّ المكذِّبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين . وأيضاً : إنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة على ما قيل : وبضدها تتبين الأشياء{[22205]} .


[22132]:تعالى: سقط من ب.
[22133]:في ب: ينجي الله.
[22134]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 21/244 بتصرف.
[22135]:هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، أخذ عنه أبو هريرة، وابن عباس، وأرسل عنه قيس بن أبي حازم، وجماعة، استشهد بمؤتة – رضي الله عنه – خلاصة تذهيب الكمال 2/55-56.
[22136]:قال: سقط من الأصل.
[22137]:في الأصل: عن الصدور.
[22138]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[22139]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22140]:في ب: ينجي الله.
[22141]:هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي، أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور، شهد العقبة، وغزا تسع عشرة غزوة، أخذ عنه بنوه، وطاوس، والشعبي، وعطاء، مات سنة (87) هـ بالمدينة. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 1/156-157.
[22142]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/329، وانظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (107) والدر المنثور 4/280.
[22143]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 21/244. بتصرف.
[22144]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 21/243.
[22145]:[الأنبياء: 101،102].
[22146]:في ب: والبعيد.
[22147]:في ب: ورد.
[22148]:في ب: يسمعوا.
[22149]:[النمل: 89].
[22150]:آخر ما نقله عن الفخر الرازي 21/243.
[22151]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/389.
[22152]:[القصص:23].
[22153]:آخر ما نقله عن الفخر الرازي 5/389.
[22154]:هو الحسين بن مسعود بن محمد أبو محمد البغوي، يعرف بابن الفراء، ويلقب محيي السنة وركن الدين أيضا، كان إماما في التفسير، والحديث، والفقه، ومن مصنفاته: معالم التنزيل في التفسير، وشرح السنة والمصابيح، والجمع بين الصحيحين، والتهذيب في الفقه، مات سنة 516 هـ. طبقات المفسرين للسيوطي 49-50.
[22155]:في ب: والأول أصح قال البغوي.
[22156]:البغوي 5/489. وفيه: مما دخلت فيه لا ما وردت.
[22157]:كان: سقط من ب.
[22158]:انظر البغوي 5/391.
[22159]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22160]:البحر المحيط 6/209.
[22161]:تقدم.
[22162]:تقدمت ترجمته.
[22163]:هو عاصم بن أبي الصباح العجاج الجحدري البصري، أخذ القراءة عرضا عن سليمان بن قتة عن ابن عباس، وروى حروفا عن أبي بكر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قرأ عليه عرضا أبو المنذر سلام بن سليمان، وغيره، مات سنة 128 هـ. طبقات القراء 1/349.
[22164]:تقدم.
[22165]:المختصر (86)، البحر المحيط 6/210.
[22166]:في ب: وهي الظرفية.
[22167]:في ب: بعدها.
[22168]:ننجي: سقط من ب.
[22169]:السبعة (411) الحجة لابن خالويه (239) الكشف 2/91.
[22170]:تقدم.
[22171]:أي: بإسكان النون وتخفيف الجيم. السبعة 411، المختصر 86، الحجة لابن خالويه 239، الكشف 2/91، الإتحاف (300).
[22172]:وكلا القراءتين بمعنى واحد، إلا أنه في التشديد معنى التكرير والتكثير، كأنه نجاة بعد نجاة. الكشف 2/91.
[22173]:فرقة: سقط من ب.
[22174]:البحر المحيط 6/120.
[22175]:عند قوله تعالى: {فاستجبنا له ونجيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين} الآية (88)، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم وابن عامر. السبعة (430)، الكشف 2/113، النشر 2/324.
[22176]:البحر المحيط 6/210.
[22177]:في ب: التنحي.
[22178]:في ب: القول. وهو تحريف.
[22179]:انظر البحر المحيط 6/210.
[22180]:ما بين القوسين في ب: ترك.
[22181]:على ما تقدم من الإعلال.
[22182]:ما بين القوسين في ب: إما مفعول وإن كان (نذر) يتعدى لاثنين بمعنى ترك وإما حال.
[22183]:لأن المصدر في نية الموصول، ولا يتقدم معمول الموصول عليه، وكذلك المصدر لا يتقدم معموله عليه.
[22184]:حال: سقط من ب.
[22185]:في ب: للنكرة وقدم.
[22186]:لأنّ صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبت على الحال، لامتناع الصفة على الموصوف. انظر ابن يعيش 2/63-64.
[22187]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 21/244-245.
[22188]:في ب: على القول بأن الورود هو الدخول.
[22189]:ما بين القوسين سقط من ب.
[22190]:في الأصل: يدخلوا.
[22191]:في ب: ليس. وهو تحريف.
[22192]:ربنا: سقط من ب.
[22193]:في ب: وردتموها.
[22194]:انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث (107).
[22195]:في ب: فصل قال.
[22196]:الإهالة: ما أذبت من الشحم، وقيل الإهالة الشحم والزيت، وقيل كل دهن اؤتدم به إهالة، وقيل: الدسم الجامد. اللسان (أهل).
[22197]:تقدم قريبا.
[22198]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[22199]:حق: سقط من ب.
[22200]:في الأصل: للمؤمنين.
[22201]:أخرجه الحكيم الترمذي، وابن مردويه والخطيب والبيهقي عن يعلى بن أمية. الدر المنثور 4/282.
[22202]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة 5/252، 264، وانظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (107).
[22203]:في ب:إذا على.
[22204]:غم: مكرر في ب.
[22205]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 21/244-245.