ويدلُّ عليه أيضاً قوله تعالى{[22132]} { ثُمَّ نُنَجِّي{[22133]} الذينَ اتَّقَوْا }{[22134]} ، أي : ننجي من الواردين من اتقى ، ولا يجوز أن يقول " ثُمَّ نُنجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " إلاَّ والكل واردون . والأخبار المروية دل على هذا القول ، وهو ما روي عن عبد الله بن رواحة{[22135]} قال{[22136]} : أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصد{[22137]} ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم{[22138]} " يا ابن رواحة " {[22139]} اقرأ ما بعدها " ثُمَّ نُنَجِّي{[22140]} الذين اتقوا " {[22141]} فدلَّ على أنَّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر{[22142]} أنَّه سُئِلَ عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الورودُ الدخولُ ، ولا يبقى بردٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً ، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها{[22143]} " {[22144]} .
وقيل : المراد{[22145]} من تقدم ذكره من الكفار ، فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة . قالوا : ولا يجوز أن يدخل الناء مؤمن أبداً لقوله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا }{[22146]} والمبعد{[22147]} عنها لا يوصف بأنه واردها ، ولو وردوا{[22148]} جهنم لسمعوا{[22149]} حسيسها .
وقوله : { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ }{[22150]} [ النمل : 89 ] . والمراد في قوله{[22151]} : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الحضور والرؤية لا الدخول ، كقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ }{[22152]} أراد به الحضور . وقال عكرمة : الآية في الكفار يدخلونها ولا يخرجون منها .
وقال ابن مسعود : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } يعني القيامة والكناية راجعة إليها{[22153]} .
وقال البغوي{[22154]} : والأول أصح{[22155]} ، وعليه أهل السنة أنهم جميعاً يدخلون النار ، ثم يخرج الله منها أهل الإيمان ، لقوله تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } أي : الشرك ، وهم المؤمنون ، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه{[22156]} .
قوله : { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } أي : كان{[22157]} ورودكم جهنم حتماً لازماً مقضياً قضاه الله عليكم{[22158]} .
قوله : { ثُمَّ نُنَجِّي } . قرأ العامة : ثُمَّ نُنَجِّي " {[22159]} بضم " ثُمَّ " على أنَّها العاطفة{[22160]} .
وقرأ علي بن أبي طالب{[22161]} -رضي الله عنه- وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي{[22162]} ، والجحدري{[22163]} ويعقوب{[22164]} " ثَمَّ " بفتحها{[22165]} على أنَّها الظرفية{[22166]} ، ويكون منصوباً بما بعده{[22167]} ، أي : هُناك نُنَجِّي الذين اتََّقَوا .
وقرأ الجمهور " نُنَجِّي " {[22168]} بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم من نجَّى مضعفاً{[22169]} . وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن{[22170]} " نُنَجِي " من أنْجَى{[22171]} .
والفعل على هاتين القراءتين مضارع{[22172]} .
وقرأت فرقة{[22173]} " نُجِّي " بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة{[22174]} ، وهو على هذه القراءة ماض مبني للمفعول ، وكان من حق قارئها أن يفتح الياء ، ولكنه سكنه تخفيفاً .
وتحتمل هذه القراءة توجيهاً آخر سيأتي في قراءة متواترة في آخر سورة الأنبياء{[22175]} .
وقرأ علي بن أبي طالب -أيضاً- " نُنَحِّي " بحاء مهملة{[22176]} من التنحية{[22177]} .
ومفعول " اتَّقَوْا " {[22178]} محذوف مراد للعلم به ، أي : اتقوا الشرك والظلم{[22179]} .
قوله : { جِثِيًّا } إمَّا مفعول ثان إن كان " نَذَرُ " يتعدى لاثنين بمعنى أن " نترك ونصير " {[22180]} .
وإمَّا حال إن جعلت " نَذَرُ " بمعنى نخليهم . و " جَثِيًّا " على ما تقدم{[22181]} .
و " فيها " يجوز أن يتعلق ب " نَذَرُ " ، وأن يتعلق ب " جِثِيًّا " إن كان حالاً{[22182]} ولا يجوز ذلك فيه إن كان مصدراً{[22183]} ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال{[22184]} من " جِثِيًّا " ، لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم{[22185]} عليها فنصب حالاً{[22186]} .
اختلفوا في أنَّه كيف يندفع{[22187]} عن المتقين ضرر النار إذا ورودها بأنَّ القول هو الدخول{[22188]} . فقيل : " البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ، وإذا كان كذلك لا يمتنع " {[22189]} أن يدخل{[22190]} الكل في جهنم ، ويكون المؤمنون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار في وسط النار ، وعن جابر أنَِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول بعضهم لبعض : أليس{[22191]} وعدنا ربنا{[22192]} أن نرد النار ؟ فيقال لهم : قد دخلتموها{[22193]} وهي خامدة " {[22194]} .
وقيل : إنَّ الله -تعالى- يخمد النار فيعبرها المؤمنون ، وتنهار بالكافرين . قال{[22195]} ابن عباس : يردونها كأنَّها إهالة{[22196]} . وقيل : إنَّ الله -تعالى- يجعل النار الملاصقة لأبدان المؤمنين برداً وسلاماً كما جاء في الحديث المتقدم{[22197]} ، وكما في حق إبراهيم -عليه السلام{[22198]}- ، وكما في حق{[22199]} الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فيكون دماً ، ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً ، وفي الحديث : " تقول النار للمؤمن{[22200]} جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " {[22201]} . وعن مجاهد في قوله تعالى { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : من حُمَّ من المسلمين فقد وردها . وفي الخبر " الحمى كنز من جهنم ، وهي حظ المؤمن من النار " {[22202]} واعلم أنه لا بُدَّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين . فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول ؟ فالجواب : أنَّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه . وأيضاً : فيه مزيد غم على أهل{[22203]} النار حيث تظهر فضيحتهم عند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه وأيضاً : إن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فيزداد غم{[22204]} الكفار وسرور المؤمنين . وأيضاً : فإن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ، ويستدلون على ذلك ، فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوه ، وأنَّ المكذِّبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين . وأيضاً : إنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة على ما قيل : وبضدها تتبين الأشياء{[22205]} .