روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا} (72)

{ ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا } بالإخراج منها على ما ذهب إليه الجمع الكثير { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } على ركبهم كما روى عن ابن عباس . ومجاهد . وقتادة . وابن زيد ، وهذه الآية ظاهرة عندي في أن المراد بالورود الدخول وهو الأمر المشترك .

وقال بعضهم : إنها دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وذلك لأن ننجي . { وَنُذُرِ } تفصيل للجنس فكأنه قيل ننجي هؤلاء ونترك هؤلاء على حالهم الذي احضروا فيه جاثين ، ولا بد على هذا من أن يكون التقدير في حواليها ، وأنت تعلم أن الظاهر عدم التقدير والجثو لا يوجب ذلك ، وخولف بين قوله تعالى : { اتقوا } وقوله سبحانه : { الظالمين } ليؤذن بترجيح جانب الرحمة وأن التوحيد هو المنجي والإشراك هو المردى فكأنه قيل : ثم ننجي من وجد منه تقوى ما وهو الاحتراز من الشرك ونهلك من اتصف بالظلم أي بالشرك وثبت عليه ، وفي إيقاع { نَّذْرٍ } مقابلاً لننجي إشعار بتلك اللطيفة أيضاً ، قال الراغب : يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به . ومن ذلك قيل لقطعة اللحم التي لا يعتد بها وذر ، وجيء بثم للإيذان بالتفاوت بين فعل الخلق وهو ورودهم النار وفعل الحق سبحانه وهو النجاة والدمار زماناً ورتبة قاله العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه ، والذي تقتضيه الآثار الواردة في عصاة المؤمنين أن يقال : إن التنجية المذكورة ليست دفعية بل تحصل أولاً فأولاً على حسب قوة التقوى وضعفها حتى يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من خير وذلك بعد العذاب حسب معصيته وما ظاهره من الأخبار كخبر جابر السابق إن المؤمن لا تضره النار مؤول بحمل المؤمن على المؤمن الكامل لكثرة الأخبار الدالة على أن بعض المؤمنين يعذبون .

ومن ذلك ما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ثم تدركهم الرحمة فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغناء في حميل السيل » ومن هنا حظر بعض العلماء أن يقال في الدعاء : اللهم اغفر لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم جميع ذنوبهم أو اللهم لا تعذب أحداً من أملا محمد صلى الله عليه وسلم هذا ، وقال بعضهم : إن المراد من التنجية على تقدير أن الخطاب خاص بالكفرة أن يساق الذين اتقوا إلى الجنة بعد أن كانوا على شفير النار وجيء بثم لبيان التفاوت بين ورود الكافرين النار وسوق المذكورين إلى الجنة وأن الأول للإهانة والآخر للكرامة ، وأنت تعلم أن الذين يذبه بهم إلى الجنة من الذين اتقوا من غير دخول في النار أصلاً ليسوا إلا الخواص .

والمعتزلة خصوا الذين اتقوا بغير أصحاب الكبائر وأدخلوهم في الظالمين واستدلوا بالآية على خلودهم في النار وكانوا ظالمين .

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه . وابن عباس . وابن مسعود . وأبي رضي الله تعالى عنهم . والجحدري . ومعاوية بن قرة . ويعقوب { ثُمَّ } بفتح الثاء أي هناك . وابن أبي ليلى { ثمه } بالفتح مع هاء السكت وهو ظرف متعلق بما بعده . وقرأ يحيى . والأعمش . والكسائي . وابن محصين . ويعقوب { ثُمَّ نُنَجّى } بتخفيف الجيم . وقرئ { ينجي } وينجي بالتشديد والتخفيف مع البناء للمفعول ، وقرأت فرقة { نجى } بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه { ننحى } بحاء مهملة ، وهذه القراءة تؤيد بظاهرها تفسير الورود بالقرب والحضور .

ومن باب الإشارة { ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم : 72 ] جزاء ظلمهم ، وهذه الآية كم أجرت من عيون العيون العيون .

فعن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه أنه كان يبكي ويقول : قد علمت أني وارد النار ولا أدري كيف الصدر الصدر بعد الورود ، وعن الحسن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يقول الرجل لصاحبه : هل أتاك أنك وارد ؟ فيقول : نعم فيقول : هل أتاك أنك خارج ؟ فيقول لا فيقول : ففيم الضحك إذن ؟