مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا} (72)

وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول ، ويدل عليه قوله : { ثم ننجى الذين اتقوا } أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال : { ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول ، ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم : الورود الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة ، واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى : { فأرسلوا واردهم } ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء وقال تعالى : { ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون } وأراد به القرب . ويقال : وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول جهنم : { كان على ربك حتما مقضيا } أي واجبا مفروغا منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى : { أولئك عنها مبعدون } ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية فقالت حفصة : أليس الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا " ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازما . القول الثاني : أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } وقال : { فأوردهم النار وبئس الورد المورود } ويدل عليه قوله تعالى : { أولئك عنها مبعدون } والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريبا فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار ، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى : { ونذر الظالمين فيها جثيا } وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار ، وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال : « أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور ، فقال عليه السلام :

" يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا " وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر : " أنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما حتى أن للناس ضجيجا من بردها " . والقائلون بهذا القول يقولون : المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم : { لا يحزنهم الفزع الأكبر } ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف ، وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف ، ولأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه " وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم ، وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب ، ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار ، فقال بعضهم : البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ، ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار ، والكفار يكونون في وسط النار . وثانيها : أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : «يردونها كأنها إهالة » وعن جابر بن عبد الله : " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة " وثالثها : أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله بردا وسلاما عليهم ، كما في حق إبراهيم عليه السلام . وكما أن الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطي فكان يصير دما ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذبا . واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين ، فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول ؟ قلنا فيه وجوه : أحدها : أن ذلك مما يزيدهم سرورا إذا علموا الخلاص منه .

وثانيها : أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها . وثالثها : أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه . ورابعها : أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غما للكفار وسرورا للمؤمنين . وخامسها : أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا ، وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين . وسادسها : أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر :

وبضدها تتبين الأشياء*** . . .

فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى : { أولئك عنها مبعدون } فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضا فالمراد عن عذابها وكذا قوله : { لا يسمعون حسيسها } فإن قيل : هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة ؟ قلنا : ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضا قوله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها . أما قوله : { كان على ربك حتما مقضيا } فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم : خلق الله وضرب الأسير ، واحتج من أوجب العقاب عقلا فقال : إن قوله : { كان على ربك حتما مقضيا } يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والاخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الاخبار لا يسمى واجبا . والجواب أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب أما قوله : { ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين } قرئ ننجي وننجي وينجي على ما لم يسم فاعله ، قال القاضي : الآية دالة على قولنا في الوعيد لأن الله تعالى بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو وهم المتقون والفاسق لا يكون متقيا ، ثم بين تعالى أن من عدا المتقين يذرهم فيها جثيا فثبت أن الفاسق يبقى في النار أبدا . قال ابن عباس : المتقي هو الذي اتقى الشرك بقول لا إله إلا الله ، واعلم أن الذي قاله ابن عباس هو الحق الذي يشهد الدليل بصحته ، وذلك لأن من آمن بالله وبرسله صح أن يقال : إنه متق عن الشرك ومن صدق عليه أنه متق عن الشرك صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من المتقي عن الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد ، فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار لعموم قوله : { ثم ننجي الذين اتقوا } فصارت هذه الآية التي توهموها دليلا من أقوى الدلائل على فساد قولهم : قال القاضي : وتدل الآية أيضا ، على فساد قول من يقول : إن من المكلفين من لا يكون في الجنة ولا في النار ، قلنا : هذا ضعيف لأن الآية تدل على أنه تعالى ينجي الذين اتقوا وليس فيها ما يدل على أنه ينجيهم إلى الجنة ، ثم هب أنها تدل على ذلك ولكن الآية تدل على أن المتقين يكونون في الجنة والظالمين يبقون في النار فيبقى ههنا قسم ثالث خارج عن القسمين وهو الذي استوت طاعته ومعصيته فتسقط كل واحدة منهما بالأخرى فيبقى لا مطيعا ولا عاصيا ، فهذا القسم إن بطل فإنما يبطل بشيء سوى هذه الآية فلا تكون هذه الآية دالة على الحصر الذي ادعاه ومن المعتزلة من تمسك في الوعيد بقوله : { ونذر الظالمين فيها جثيا } ولفظ الظالمين لفظ جمع دخل عليه حرف التعريف فيفيد العموم والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم مرارا كثيرة في هذا الكتاب ، أما قوله : { جثيا } قال صاحب «الكشاف » قوله : { ونذر الظالمين فيها جثيا } دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد نجاتهم وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين .