الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا} (72)

والنجاة لا تكون إلاّ ممّا دخلت فيه وأنت ملقىً فيه ، قال الله سبحانه

{ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء : 88 ] واللغة تشهد لهذا ، تقول العرب : ورد كتاب فلان ، ووردتُ بلد كذا ، لا يريدون جزت عليها وإنّما يريدون دخلتها ، ودليلنا أيضاً من السنّة .

وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه قال : حدَّثنا أحمد بن عبد الله المزني قال : حدَّثنا محمد بن نصر بن منصور الصائغ الشيخ الصالح قال : حدَّثنا سليمان بن حرب قال : حدَّثنا أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سميّة قال : اختلفنا في الورود ها هنا بالبصرة فقال قوم : لا يدخلها مؤمن ، وقال آخرون : يدخلونها جميعاً ، فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأهوى بإصبعيه إلى أُذنيه وقال : صمّتا إن لم أكن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الورود : الدخول ، لا يبقى بّر ولا فاجر إلاّ دخلها فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم ، حتى أنّ للنار أو لجهنم ضجيجاً لمن تردهم { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } " .

وأخبرنا شعيب بن محمد وعبد الله بن حامد قالا : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا أحمد بن الأزهر قال : حدَّثنا روح بن عبدان قال : حدَّثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنّ نافع بن الأزرق ما رأى ابن عباس يقول ابن عباس : الورود الدخول ويقول نافع ليس الورود الدخول فتلا ابن عباس

{ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] أدخل هؤلاء أم لا ؟

{ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } [ هود : 98 ] أدخل هؤلاء أم لا ؟ والله أنا وأنت فسنردها ، وأنا أرجو أن يخرجني الله وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك .

وبإسناده عن ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام : ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد إلاّ لم يلج النار إلاّ تحلّة القَسَم ثم قرأ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } .

وبإسناده عن روح قال : حدَّثنا شعبة قال : أخبرني إسماعيل السدىّ عن مرّة الهمداني عن ابن مسعود في قوله { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : يردونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم .

وبه عن روح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف ، تمرّ الطائفة الأُولى كالبرق ، والثانية كالريح ، والثالثة كأجوَد الخيل ، والرابعة كأجود البهائم ، ثمّ يمرّون والملائكة يقولون : اللهمّ سلّم سلّم .

أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الاصبهاني قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الهروي قال : حدَّثنا الحسين بن إدريس قال : حدَّثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن سفيان بن عيبنة عن رجل عن الحسن قال : قال رجل لأخيه : أي أخ هل أتاك أنكّ وارد النار ؟ قال : نعم ، قال : فهل أتاك أنّك خارج منها ؟ قال : لا ، قال : ففيم الضحك إذاً ؟ قال : فما رؤي ضاحكاً حتى مات .

وبإسناده عن عبد الله بن المبارك عن مالك بن معول عن أبي إسحاق عن ابن ميسرة أنّه أوى إلى فراشه فقال : يا ليت أُمي لم تلدني ، فقالت امرأته : يا أبا ميسرة ، إنّ الله سبحانه قد أحسن إليك ، هداك إلى الإسلام فقال : أجل ، ولكنّ الله قد بيّن لنا أنّا واردو النار ولم يبيّن لنا أنّا صادرون منها ، وأنشد في معناه :

لقد أتانا ورود النار ضاحية *** حقّاً يقيناً ولمّا يأتِّنا الصَّدَرُ

فإن قيل : فخبّرونا عن الأنبياء هل يدخلون النار ؟ يقال لهم : لا تطلق هذه اللفظة بالتخصيص فيهم بل نقول : إنّ الخلق جميعاً يردونها .

فإن احتجّوا بقوله

{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] يقال لهم : إنّ موسى لم يمرّ على تلك البئر ، وإنّما استقى لابنتي شعيب وروى الأغنام وأقام ، وهو معنى الدخول ، والعرب تعبر عن الحي وأماكنهم بذكر الماء ، فتقول : ماء بني فلان .

فإن قيل : فكيف يجوز أن يدخلها من قد أخبر الله سبحانه أنّه لا يسمع حسيسها ولا يدخلها ؟ قيل : إن الله سبحانه أخبر عن وقت كونهم في الجنة أنّهم لا يسمعون حسيسها فيجوز أن يكونوا قد سمعوا ذلك قبل دخولهم الجنة لأن الله سبحانه لم يقل : لم يسمعوا حسيسها ويجوز أن لا يسمعوا حسيسها عند دخولهم إياها إذ الله عزّ وجلّ قادر على ان يجعلها عليهم برداً وسلاماً .

وكذلك تأويل قوله لاا يَدْخُلونَ النّارَ أي لا يخلدون فيها ، أو لا يتألّمون ويتأذّون بها ، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا أبو الأزهر قال : حدَّثنا مؤمّل بن إسماعيل عن أبي هلال عن قتادة عن أنس في قول الله سبحانه

{ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] فقال : إنّك من تخلّد في النّار فقد أخزيته .

والدليل على أنّ الخلق جميعاً يدخلون النار ثمَّ ينجي الله المؤمنين بعضهم سالمين غير آلمين وبعضهم معذّبين معاقبين ثم يدخلهم جميعاً الجنة برحمته ، ما أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : أخبرنا حاجب بن محمد قال : حدَّثنا محمد بن حامد الأبيوردي قال : حدَّثنا أبو سعيد عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أُم مبشر " عن حفصة قالت : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : إنّي أرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية قالت : قلت : يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } ؟ قال : أفلم تسمعيه يقول { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } "

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان قال : أخبرنا جبغوية بن محمد قال : أخبرنا صالح بن محمد بن عبد العزيز بن المسيّب عن الربيع بن بدر عن أبي مسعود عن العباس عن كعب أنّه قال في هذه الآية { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : ترفع جهنّم يوم القيامة كأنّها متن اهالة وتستوي أقدام الخلائق عليها ، فينادي مناد أن خذي أصحابك ودعي أصحابي ، فتخسف بهم وهي أعرف بهم من الوالدة بولدها ، ويمرّ أولياء الله عزّ وجلّ بندي ثيابهم ، وقال خالد بن معدان : يقول أهل الجنة : ألم يعدنا ربّنا أن نرد النّار ؟ فيقال : بلى ولكنّكم مررتم بها وهي خامدة .

وروى خالد بن أبي الدريك عن يعلى بن منبّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " .

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدَّثنا محمد بن يعقوب قال : حدَّثنا أحمد بن عبد الحميد الحارثي قال : حدَّثنا عبد الرَّحْمن بن أبي حمّاد عن يحيى بن يمان عن عثمان الأسود عن مجاهد في قوله { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : من حُمَّ من المسلمين فقد وردها .

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدَّثنا يحيى بن سعيد القطان قال : حدَّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج من النار من قال : لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال : لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برّة ، ثم يخرج من النار من قال : لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّة " .

{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ } يعني اتقوا الشرك وهم المؤمنون ، وفي مصحف عبد الله : ثَمّ ننجي بفتح الثاء يعني هناك { وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ } أي الكافرين { فِيهَا } في النار { جِثِيّاً } جميعاً ، وقيل : على الرُّكَب .

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال : حدَّثنا داود بن سليمان قال : حدَّثنا عبد بن حميد قال : حدَّثنا سعيد بن عامر عن حشيش أبي محرز قال : سمعت أبا عمران الجوني يقول : هبك ننجو بعد كم ننجو ؟