قوله تعالى : { ولا يأمركم } قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب : بنصب الراء عطفاً على قوله ، ثم يقول فيكون مردوداً على البشر ، أي ولا يأمر ذلك البشر ، وقيل : على إضمار أن ، أي : ولا أن يأمركم ذلك البشر ، وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف ، معناه ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وجماعة : ولا يأمركم محمد .
قوله تعالى : { أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } كفعل قريش ، والصابئين ، حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، واليهود والنصارى حيث قالوا في المسيح وعزير ما قالوا .
قوله تعالى : { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } قاله على طريق التعجب والإنكار ، يعني : لا يقول هذا .
{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } وهذا تعميم بعد تخصيص ، أي : لا يأمركم بعبادة نفسه ولا بعبادة أحد من الخلق من الملائكة والنبيين وغيرهم { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } هذا ما لا يكون ولا يتصور أن يصدر من أحد من الله عليه بالنبوة ، فمن قدح في أحد منهم بشيء من ذلك فقد ارتكب إثما عظيما وكفرا وخيما .
وقوله - تعالى - { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً } تأكيد لنفى أن يقول أحد من البشر الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة للناس اعبدونى من دون الله ، وتنزيه لساحتهم عن أن يأمروهم بعبادة غير الله .
وقوله { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } وردت فيه قراءتان مشهورتان .
أما القراءة الأولى فبفتح الراء عطفا على { يَقُولَ } فى قوله { ثُمَّ يَقُولَ } وتكون " لا " مزيدة لتأكيد معنى النفى فى قوله { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } ويكون فى الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب .
والمعنى على هذه القراءة : ما كان لبشر أن يؤتية الله ما ذكر ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ، أو يأمرهم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، وذلك كقولك ما كان لزيد أن أكره ثم يهيننى ويستخف بى . وبهذه القراءة قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم .
وعلى هذه القراءة يكون توسيط الاستدراك بين المعطوف والمعطوف عليه ، للمسارعة إلى تحقيق الحق ، ولبيان ما يليق بشأنه ويحق صدوره عنه .
وأما القراءة الثانية فقد قرأها الباقون برفع الراء فى { يَأْمُرَكُمْ } فتكون الجملة مستأنفة ، والمعنى : ولا يأمركم هذا البشر الذى أعطاه الله ما أعطاه من نعمة أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا .
وخصص الملائكة والنبيين بالذكر لأن عبادتهما قد شاعت عند كثير من الناس ، فقد وقع فى عبادة الملائكة " الصابئة " الذين كانوا يقيمون فى بلاد الكلدان ، وتبعهم بعض المشركين من العرب . ووقع فى عبادة بعض النبيين كثير من النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها يعبد وزعموه ابن الله وكثير من اليهود عبدوا عزيزاً وزعموه ابن الله .
والاستفهام فى قوله { أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } للإنكار الذى بمعنى النفى .
أى : أن الرسل الكرام لا يمكن أن يأمروا الناس بالكفر بالله بعد أن هداهم الله - تعالى - عن طريق هؤلاء الرسل إلى أن يكونوا مسلمين .
فالجملة الكريمة تأكيد بأبلغ وجه لنفى أن يأمر الرسل الناس بعبادة غير الله ، وتنزيه لساحتهم عن أن يقولوا قولا أو يأمروا بأمر يخالف ما تلقوه عن له - تعالى - من إفراده بالعبادة والطاعة والخضوع .
قال بعضهم : وإذا كان ما ذكر في الآيتين لا يصلح لنبى ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ، ولهذا قال الحسن البصرى : لا ينبغى هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته . ثم قال : وذلك أن القوم - يعنى أهل الكتاب - كان يعبد بعضهم بعضا كما قال - تعالى - { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } .
فالجهلة من الأحبار والرهبان يدخلون فى هذا الذم ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنهم إنما يأمرون بما أمر الله به ، وينهون عما نهى الله - تعالى - عنه ولذلك سعدوا وفازوا " .
ثم قال : { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } أي : ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله ، لا نبي مرسل ولا ملك مُقَرَّب { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : لا يَفْعَل{[5254]} ذلك ؛ لأنَّ من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر ، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي{[5255]} إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } الآية ، [ النحل : 36 ] وقال تعالى{[5256]} { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] وقال [ تعالى ]{[5257]} إخبارًا عن الملائكة : { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 29 ] .
في قوله : { ولا يأمركم } التفات من الغيبة إلى الخطاب .
وقرأ الجمهور « يأمُرُكم » بالرفع على ابتداء الكلام ، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي ، فإنه لما وقع بعد فعل منفي ، ثم انتقض نفيه بلكن ، احتيج إلى إعادة حرف النفي ، والمعنى على هذه القراءة واضح : أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا إلخ ولا هو يأمُرهم أن يتخذوا الملائكة أرباباً . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ويعقوب ، وخلف : بالنصب عطفاً على أن يقولَ ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله : { ما كان لبشر } ، وليست معمولة لأنْ : لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى : لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألاّ يأمركم أن تتخذوا ، والمقصود عكس هذا المعنى ، إذ المقصود أنه لا ينبغي له أن يأمر ، فلذلك اضطرّ في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد . وقرأه الدُّوري عن أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون .
ولعلّ المقصود من قوله : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } : أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة ، فصوّروا صور النبيئين ، مثل يحيى ومريم ، وعبدوهما ، وصوّروا صور الملائكة ، واقتران التصوير مع الغلوّ في تعظيم الصورة والتعبد عندها ضربٌ من الوثنية .
قال ابن عرفة : « إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل ويَنهاكم . والجواب أنّ ذلك باعتبار دعواهم وتقوّلهم على الرسل » . وأقول : لعلّ التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله : { ثم يقول للناس } لأنهم زعموا أنّ المسيح قال : إنه ابنُ الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرُهم باتخاذ الملائكة أرباباً ، أو لأنهم لما كانوا يدّعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه ، أو لأنّ المسيح لم ينههم عن ذلك في نفس الأمر ، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر ، في الردّ على الأمة ، على أنّ أنبياءهم لم يَأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري ، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة ، وهي قوله : { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } .
فهناك سببان لإنكار أن يكونَ ما هم عليه مُرضياً أنبياءهم ؛ فإنه كفر ، وهم لا يرضون بالكفر . فما كان من حقّ من يتبعونهم التلبُّس بالكفر بعد أن خرجوا منه .
والخطاب في قوله : { ولا يأمركم } التفات من طريقة الغيبة في قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } فالمواجَه بالخطاب هم الذين زعموا أنّ عيسى قال لهم : كونوا عباداً لي من دون الله .
فمعنى { أنتم مسلمون } يقتضي أنّهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام . فقيل : أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله { بالكفر } .
وقيل الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله : { إذ أنتم مسلمون } لأنّ اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن ، فهذا الذي جرّأ من قالوا : إنّ الآية نزلت لقول رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم « ألاَ نسجد لك » ، ولا أراه لو كان صحيحاً أن تكون الآية قاصدة إياه ؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل : ثم يأمر الناس بالسجود إليه ، ولما عرّج على الأمر بأن يكونوا عباداً له من دون الله ولا بأن يتّخذوا الملائكة والنبيين أرباباً .