الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ أَرۡبَابًاۚ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (80)

قوله تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } : قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب " يأمركم " والباقون بالرفع ، وأبو عمرو على أصلِهِ من جواز تسكين الراء والاختلاسِ ، وهي قراءة واضحة سهلة التخريج والمعنى ، وذلك أنها على القطع والاستئناف ، أخبر تعالى بأن ذلك الأمرَ لا يقع . والفاعل فيه احتمالان ، أحدهما : هو ضميرُ الله تعالى ، والثاني هو ضميرُ " بَشَر " الموصوف بما تقدَّم ، والمعنى على عَوْدِهِ على " بَشَر " أنه لا يقع مِنْ بشر موصوفٍ بما وُصِف به أَنْ يَجْعَلَ نفسَه رباً فيُعْبَدَ ، ولا يأمر أيضاً أن تُعْبَدَ الملائكة والأنبياءُ من دون الله ، فانتفى أن يدعوَ الناس إلى عبادة نفسه وإلى عبادة غيره . والمعنى على عَوْده على الله تعالى أنه أخبر أنه لم يأمر بذلك فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادةِ غيره تعالى .

وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها [ أوجه ، ] أحدُها : قول أبي علي وغيره ، وهو أن يكونَ المعنى : ولا له أن يأمرَكم ، فقدَّروا " أَنْ " تُضْمر بعد " لا " وتكون " لا " مؤكِّدةً لمعنى النفي السابق كما تقول : " ما كان من زيد إتيانٌ ولا قيام " وأنت تريدُ انتفاءَ كلِّ واحدٍ منهما عن زيد ، فلا للتوكيد لمعنى النفي السابق ، وبقي معنى الكلام : ما كانَ من زيدٍ إتيانٌ ولا منه قيام .

الثاني : أن يكونَ نصبُه لنسقِهِ على " يُؤْتِيَه " قال سيبويه : " والمعنى : وما كان لبشرٍ أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة " . قال الواحدي : " ويُقَوِّي هذا الوجه ما ذكرنا أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : أتريد يا محمد أن نتَّخذك رباً فَنَزَلَت " .

الثالث : أن يكونَ معطوفاً على " يقول " في قراءة العامة قاله الطبري . قال ابن عطية : " وهذا خطأٌ لا يلتئم به المعنى " ولم ييبِّنْ أبو محمد وجهَ الخطأ ولا عدمَ التئام المعنى . قال الشيخ : " وجهة الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على " يقول " وجَعَل " لا " للنفي على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد فلا يمكن أن يقدِّر الناصبَ وهو " أنْ " إلا قبل " لا " النافية ، وإذا قَدَّرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب " لا " مصدر منفيٌّ ، فيصير المعنى : ما كان لبشرٍ موصوفٍ بما وُصف به انتفاءُ أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، وإذا لم يكن له انتفاءُ الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك ، وهو خطأٌ بيِّن . أمَّا إذا جَعَل " لا " لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خطأ ولا عدم التئام المعنى ، وذلك أنه يصير النفي منسحباً على المصدرين المُقَدَّرِ ثبوتُهما فينتفي قولُه { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } وينتفي أيضاً أمرُه باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، ويوضِّح هذا المعنى وضعُ " غير " موضعَ " لا " فإذا قلت : " ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ " كانت " لا " لتأكيد النفي وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت " لا " لتأسيس النفي كانت بمعنى غير ، فيصير المعنى انتفاء الفقه عن وثبوت النحو له ، إذ لو قلت : " ما لزيد فقه وغيرُ نحو " كانَ في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ما له غيرُ نحو ، ألا ترى أنك إذا قلت : " جئتُ بلا زادٍ " كان المعنى جئت بغير زادٍ ، وإذا قلت : " ما جئت بغير زادٍ " معناه أنك جِئت بزاد ، لأنَّ " لا " هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدمَ التئام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين ، وهو أن تكون " لا " لتأسيس النفي لا لتأكيده ، وأن يكون من عطف المنفي بلا على المثبت الداخل عليه النفيُ نحو : ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم تريد : ما أريدُ أَنْ لا تتعلم " انتهى .

وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف " يَأْمركم " على " يقول " وجَوَّز في " لا " الداخلةِ عليه وجهين :

أحدُهما : أَنْ تكونَ لتأسيس النفي ،

والثاني : أنها مزيدةٌ لتأكيده ، فقال : " وقُرىء " ولا يأمركم " بالنصب عطفاً على " ثم يقول " ، وفيه وجهان :

أحدهما : أَنْ تَجْعَلَ " لا " مزيدةً لتأكيد معنى النفي في قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وتركِ الأندادِ ، ثم يأمرَ الناسَ بأن يكونوا عباداً له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً كقولك : ما كان لزيدٍ أن أكرمه ثم يهينَني ولا يستَخِفَّ بي .

والثاني : أن تَجْعَلَ " لا " غيرَ مزيدة ، والمعنى : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشاً عن عبادةِ الملائكة ، واليهودَ والنصارى عن عبادةِ عُزير والمسيح ، فلمَّا قالوا له : أَنتخذك رَبّاً قيل لهم : ما كان لبشَر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء " . قلت : وهذا الذي أورده الزمخشري كلامٌ صحيح ومعنى واضح على كلا تقديري كونِ " لا " لتأسيسِ النفي أو تأكيدِهِ ، فكيف يجعل الشيخ كلام الطبري فاسداً على أحد التقديرين وهو كونُها لتأسيس النفي ؟ فقد ظهر والحمد لله صحة كلام الطبري بكلام أبي القاسم الزمخشري وظهر أن ردَّ ابن عطيةَ عليه مردود .

وقد رَجَّحَ الناسُ قراءةَ الرفع على النصب قال سيبويه : " ولا يأمُركم منقطعة مما قبلهما ؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله " ، قال الواحدي : " ومما يدلُّ على الانقطاع من الأول قراءةُ عبد الله : " ولَنْ يأمركم " .

قالوا الفراء : " فهذا دليلٌ على انقطاعِها من النسق وأنَّها مستأنفةٌ ، فلمَّا وقعت [ لا ] موقعَ لن رَفَعَتْ كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } [ البقرة : 119 ] وفي قراءة عبد الله : " ولن تُسْأل " وقال الزمخشري : " والقراءة بالرفع على ابتداءِ الكلام أظهرُ ، ويَعْضِدُها قراءةُ عبد الله : " ولن يأمركم " . انتهى .

وقد تقدَّم أنَّ الضميرَ في " يأمركم " يجوز أن يعود على " الله " وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم ، والمرادُ به النبي صلى الله عليه وسلم أو أعلمُّ من ذلك ، سواءً قُرىء برفع " ولا يأمركم " أو بنصبه إذا جعلناه معطوفاً على " يؤتيه " ، وأما إذا جعلناه معطوفاً على " يقول " فإنَّ الضمير يعود لبشر ليس إلا ، ويؤيد ما قلته ما قال بعضُهم : " ووجهُ القراءةِ بالنصب أن يكونَ معطوفاً على الفعلِ المنصوب قبله ، فيكونُ الضميرُ المرفوع لبشر لا غير " يعني بما قبله " ثم يقولَ " . ولمَّا ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضميرَ عائداً على الله تعالى ، ولم يذكر غيرَ ذلك ، فيُحتمل أَنْ يكونَ هو الأَظهرَ عنده ، ويُحتمل أنه لا يجوز غيرُه ، والأولى أَوْلى .

قال بعضهم : " في الضمير المنصوب في " يأمركم " على كلتا القراءتين خروجٌ من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفاتِ " قلت : كأنه تَوَهَّم أنه لمَّا [ توهم ] تقدَّم ذِكْرُ الناسِ في قوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } كان ينبغي أن يكون النظم " ولا يأمرهم " جَرْياً على ما تقدم ، وليس كذلك ، بل هذا ابتداءُ خطابٍ لا التفاتَ فيه .

قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } " بعد " متعلِّقٌ بيأمركم ، و " بعد " ظرفُ زمانٍ مضافٌ لظرفِ زمانٍ ماضٍ ، وقد تقدَّم أنه لا يُضاف إليه إلا الزمان نحو : حينئذٍ ويومئذٍ ، و { أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } في محلِّ خفضٍ بالإِضافة ؛ لأنَّ " إذ " تُضاف إلى الجملة مطلقاً اسميةً كانت أو فعليةً .