البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ أَرۡبَابًاۚ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (80)

{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } قرأ الحرميان ، والنحويان ، والأعشى والبرجمي : برفع الراء على القطع ، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله ، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على الله ، قاله سيبويه ، والزجاج .

وقال ابن جريج : عائد على : بشر ، الموصوف بما سبق ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى على هذه القراءة : أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه رباً فيعبد ، ولا هو أيضاً يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أرباباً ، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره .

وإن كان الضمير عائداً على الله فيكون إخباراً من الله أنه لم يأمر بذلك ، فانتفى أمر الله بذلك ، وأمر أنبيائه .

وقرأ عاصم وابن عامر ، وحمزة ولا يأمركم ، بنصب الراء ، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى : ولا له أن يأمركم ، فقدروا : أن ، مضمرة بعد : لا ، وتكون : لا ، مؤكدة معنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام .

وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، فلا للتوكيد في النفي السابق ، وصار المعنى : ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام .

وقال الطبري قوله : ولا يأمركم ، بالنصب معطوف على قوله : ثم يقول : قال ابن عطية : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى .

انتهى كلامه .

ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به ، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على : ثم يقول ، وكانت لا لتأسيس النفي ، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل : لا ، وهو : أن ، فينسبك من : ان ، والفعل المنفي مصدر منتف فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وصف به انفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، وإذا لم يكن له الانتفاء كان له الثبوت ، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر ثبوتهما ، فينتفي قوله : { كونوا عباداً لي } وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، ويوضح هذا المعنى وضع : غير ، موضع : لا ، فإذا قلت : ما لزيد فقه ولا نحو ، كانت : لا ، لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت : لا ، لتأسيس النفي كانت بمعنى : غير ، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له ، إذ لو قلت : ما لزيد فقه وغير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ماله غير نحو .

ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زاد ، كان المعنى : جئت بغير زاد ، وإذا قلت : ما جئت بغير زاد ، معناه : أنك جئت بزاد ؟ لأن : لا ، هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم القيام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين في : لا ، وهي أن يكون لتأسيس النفي ، وأن يكون من عطف المنفي بلا على المثبت الداخل عليه النفي ، نحو : ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم .

وأجاز الزمخشري أن أن تكون : لا ، لتأسيس النفي ، فذكر أولاً كونها زائدة لتأكيد معنى النفي ، ثم قال : والثاني أن يجعل : لا ، غير مزيده ، والمعنى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك رباً ، قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء .

قال : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، وينصرها قراءة عبد الله : ولن يأمركم ، انتهى كلام الزمخشري .

{ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح ، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر ، ومعناه : أنه لا يأمر بكفر لا بعد الاسلام ولا قبله ، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه الله .

وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسملمين ، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أرباباً ثم الصابئة وعبدة الأوثان ، والذين اتخذوا النبيين أرباباً هم اليهود والنصارى والمجوس ، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع : كفراً .

و : بعد ، ينتصب بالكفر ، أو : بيأمركم ، وإذْ ، مضافة للجملة الإسمية كقوله : { واذكروا إذ أنتم قليل } وأضيف إليها : بعد ، ولا يضاف إليها إلاَّ ظرف زمان .

/خ82