اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ أَرۡبَابًاۚ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (80)

قوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب " يَأمُرَكُمْ " والباقون بالرفع{[18]} وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس ، وهي قراءة واضحة ، سهلة التخريج ، والمعنى ، وذلك أنها على القطع والاستئناف .

أخبر تعالى - بأن ذلك الأمر لا يقع ، والفاعل فيه احتمالان :

أحدهما : هو ضمير الله – تعالى .

الثاني : هو ضمير الموصوف المتقدم .

والمعنى : ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وجماعة : ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً{[19]} وقيل : لا يأمركم عيسى .

وقيل : لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرْباباً ، كفعل قريش والصابئين - حيث قالوا في المسيح هو العزير .

والمعنى على عوده على " بَشَر " أنه لا يقع من بشر موصوفٍ بما وُصِفَ به أن يَجْعَل نفسه ربًّا ، فيُعْبَدَ ، ولا يأمر - أيضاً - أن تُعْبَد الملائكةُ والنبيون من دون الله ، فانتفى أن يدعوَ الناسَ إلى عبادة نفسه ، وإلى عبادة غيره - والمعنى - على عَوْده على الله - تعالى - أنه تعالى أخْبَر أنه لم يَأمُرْ بذلك ، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى .

وأما قراءة النصب ففيها وجوهٌ :

أحدها : قول أبي علي وغيره ، وهو أن يكون المعنى : دلالة أن يأمركم ، فقدروا " أن " مضمرة بعده وتكون " لا " مؤكِّدة لمعنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، ف " لا " للتوكيد لمعنى النفي السابق ، وبقي معنى الكلام : ما كان من زيد إتيان ، ولا منه قيام .

الثاني : أن يكون نصبه لنَسَقه على { أَن يُؤْتِيهُ } قال سيبويه : والمعنى : وما كان لبَشَرٍ أن يأمركم أن تتخِذُوا الملائكة .

قال الواحديُّ : ويُقوي هذا الوجهَ ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أتريد يا محمدُ أن نتخذَك رَبًّا ؟ فنزلت .

الثالث : أن يكون معطوفاً على " يَقُولُ " في قراءة العامة - قاله الطَّبَريُّ .

قال ابن عطيةَ : " وهذا خَطأ لا يلتئم به المعنى " ، ولم يبين أبو مُحَمدٍ وَجْهَ الخَطَأ " ولا عدم التآم المعنى .

قال أبو حيّان{[20]} : " وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على " يَقُولَ " وجعل " لا " للنفي - على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد - فلا يمكن أن يُقَدَّر الناصب - وهو " أن " - إلا قبل " لا " النافية ، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب " لا " مصدر منفي ، فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وُصِفَ به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً - وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك ، وهو خَطَأ بيِّن .

أما إذا جعل " لا " لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خَطَأ ، ولا عدم التئام المعنى ؛ وذلك أنه يصير النفي مستحباً على المصدرين المقدَّرِ ثبوتهما ، فينتفي قوله : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } وينتفي أيضاً أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً . ويوضِّح هذا المعنى وَضْعُ " غير " موضع " لا " فإذا قلتَ : ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ . كانت " لا " لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوَصْفان ، ولو جعلت " لا " لتأسيس النفي كانت بمعنى " غير " فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه ، وثبوت النحو له ؛ إذ لو قلت : ما لزيد فقه غير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلتَ : ما له غير نحو ، ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زادٍ ، كان المعنى : جئت بغير زاد وإذا قلت : ما جئت بغير زادٍ ، معناه أنك جئت بزاد ؛ لأن " لا " هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئامِ المعنى إنما يكون على أحد التقديرين ، وهو أن يكون " لا " لتأسيس النفي لا لتأكيده ، وأن يكون من عطف المنفي ب " لا " على المثبت الداخل عليه النفي نحو : ما أريد أن تجهل وألا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم " .

وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف " يَأمُرَكُم " على " يَقُولَ " وجوَّزَ في " لا " الداخلة عليه وجهين :

أحدهما : أن يكون لتأسيس النفي .

الثاني : أنها مزيدة لتأكيده ، فقال : وقُرِئ { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالنصب ؛ عطفاً على " ثُمَّ يَقُولَ{[21]} " وفيه وجهان :

أحدهما : أن تجعل " لا " مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } . والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى ، ويُنَصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً لهم ، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ، كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ، ثم يهينني ولا يستخف بي .

والثاني : أن يُجْعَل " لا " غير مزيدة ، والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهَى قُرَيشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادةِ عُزَيْرٍ والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك ربًّا ؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته ، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء .

قال شهاب الدينِ : " وكلام الزمخشري صحيحٌ ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون " لا " لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يَجْعَل الشيخُ كلامَ الطبريِّ فاسداً على أحد التقديرين - وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحةُ كلام الطبريِّ بكلام الزمخشريِّ ، وظهر أن رَدَّ ابنِ عطيةَ عليه مردودٌ " .

وقد رجح الناس قراءةَ الرفعِ على النصبِ .

قال سيبويه : ولا يأمركم منقطعة مما قبلها ؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله .

قال الواحدي : ومما يدل على الانقطاع من الأول قراءة عبد الله " وَلَنْ يَأمُرَكُم{[22]} .

وقال الفرّاءُ : فهذا دليل على انقطاعها من النسق ، وأنها مُسْتأنفة ، فلما وقعت " لا " موقع " لن " رفعت كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } [ البقرة : 119 ] وفي قراءة ، عبد الله : ولن تُسْأل .

قال الزمخشريُّ : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، ويعضدُهَا قراءةُ عبد الله : " ولَنْ يَأمُرَكم " وقد تقدم أن الضمير في " يَأمُركُمْ " يجوز أن يعود على " الله " وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو أعم من ذلك .

وسواء قرئ برفع { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } أو بنصبه إذا جعلناه معطوفاً على " يَقُولَ " فإن الضمير يعود على " بشر " لا غير ، [ ويؤيد هذا قولُ بعضهم : ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفاً على الفعل المنصوب قبله ، فيكون الضمير المرفوع لِ " بشر " لا غير يعني بما قبله " ثُمَّ يَقُولَ " .

ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائداً على " الله " تعالى ولم يذكر غير ذلك ، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده ، ويُحْتَمَل أنه لا يجوز غيرُه ، والأول أوْلَى .

قال بعضهم : وفي الضمير المنصوب في " يَأمُرُكُمْ " - على كلتا القراءتين - خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات ، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي - في قوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم ؛ جرياً على ما تقدم ، وليس كذلك ، بل هذا ابتداء خطابٍ ، لا التفات فيه .

قوله : { أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ } الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار ، يعني أنه لا يفعل ذلك .

قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } " بَعْدَ " متعلق ب " يَأمُرُكُمْ " وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماضٍ وقد تقدّم أنه لا يضافُ إليه إلا الزمان ، نحو حينئذٍ ويومئذٍ . و { أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } في محل خفض بالإضافة ؛ لأن " إذْ " تضاف إلى الجملة مطلقاً .

قال الزمخشريُّ : " بَعْدَ إذ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ " دليلٌ على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، وهم الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَسْجُدُوا له .


[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.