قوله تعالى : { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا } من الثواب .
قوله تعالى : { حقًا } ، أي صدقا .
قوله تعالى : { فهل وجدتم ما وعد ربكم } ، من العذاب .
قوله تعالى : { حقًا قالوا نعم } ، قرأ الكسائي بكسر العين حيث كان ، والباقون بفتحها وهما لغتان .
قوله تعالى : { فأذن مؤذن بينهم } ، أي نادى مناد أسمع الفريقين .
قوله تعالى : { أن لعنة الله على الظالمين } ، قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم : ( أن ) خفيف ، ( لعنة ) ، رفع ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، ( لعنة الله ) نصب على الظالمين ، أي : الكافرين .
{ 44 - 45 } { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ }
يقول تعالى لما ذكر استقرار كل من الفريقين في الدارين ، ووجدوا ما أخبرت به الرسل ونطقت به الكتب من الثواب والعقاب : أن أهل الجنة نادوا أصحاب النار بأن قالوا : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا } حين وعدنا على الإيمان والعمل الصالح الجنة فأدخلناها وأرانا ما وصفه لنا { فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ } على الكفر والمعاصي { حَقًّا قالوا نعم } قد وجدناه حقا ، فبين للخلق كلهم ، بيانا لا شك فيه ، صدق وعد اللّه ، ومن أصدق من اللّه قيلا ، وذهبت عنهم الشكوك والشبه ، وصار الأمر حق اليقين ، وفرح المؤمنون بوعد اللّه واغتبطوا ، وأيس الكفار من الخير ، وأقروا على أنفسهم بأنهم مستحقون للعذاب .
وبعد هذه الموازنة بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين ، بدأ القرآن يسوق لنا مشهداً آخر من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار .
استمع إلى سورة الأعراف وهى تحكى لنا هذا المشهد المؤثر بأسلوبها العجيب فتقول : { ونادى أَصْحَابُ الجنة . . . } .
المعنى : أن أصحاب الجنة سوف يسألون أهل النار سؤال تعيير وتوبيخ يوم القيامة فيقولون لهم قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا من الثواب والجزاء ، فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم حقا من العقاب وسوء المصير ؟ قالوا : نعم . أى : قال أهل النار : نعم وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله حقا .
وهذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار .
والظاهر أن هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار لأن الجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد . فكل فريق من أهل الجنة ينادى من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا .
وعبر بالماضة مع أن هذا النداء يكون في الآخرة لتحقق الوقوع وتأكده .
وكلمة { حَقّاً } نصبت في الموضعين على الحالية ، وقيل إنها مفعول ثان ويكون وجد بمعنى علم .
ثم بين - سبحانه - ما جرى بعد ذلك فقال : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } .
التأذن : رفع الصوت بالإعلام بالشىء . واللعنة : الطرد والإبعاد مع الخزى والإهانة .
والمعنى : بعد أن قامت الحجة على الكافرين وثبت الفوز للمؤمنين . نادى مناد بين الفريقين بقوله : لعنة الله على الظالمين لأنفسهم ، ولغيرهم ، الذين من صفاتهم أنهم يمنعون الناس عن اتباع شريعة الله ، ويريدون لها أن تكون معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها الناس ، وهم بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب جاحدون مكذبون .
وفى قوله : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } . نكر المؤذن ؛ لأن معرفته غير مقصودة بل المقصود بالإعلام بما يكون هناك من الأحكام ولم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شىء ، فهو من أمور الغيب التي لا تعلم علما صحيحا إلا بالتوقيف المستند إلى الوحى ، وما ورد في ذلك فهو من الآثار التي لا يعتمد عليها .
قال بعض العلماء : " وفى هاتين الآيتين تعرض السورة لمرحلة أخرى من مراحل العذاب ، وهى نداء أصحاب الجنة لأصحاب النار نداء يسجل عليهم الخزى والنكال ، ويشعرهم بالحسرة والندامة ، إذ كذبوا بما يرونه الأن واقعا في مقابلة النعيم الذي صار إليه أهل الإيمان ، وأحسوا به كذلك واقعا .
وفى هذا نرى صورة من الحديث الذي يمثل الرضا والاطمئنان واللذة من جانب . ويمثل الحسرة والذلة والقلق من جانب آخر . ويصور الحكم النافذ الذي لا مرد له ولا محيص عنه يؤذن به مؤذن لا يدرك كنهه ولا يعلم من هو ولا ما صوته ولا كيف يلقى أذانه ، ولا كيف يكون أثر هذا الأذن في نفوس سامعه .
وإنه لتصوير قوى بارع ، يحرك إليه النفوس ، ويهز المشاعر ، ويبين أن النهاية الأليمة المتوقعة لهؤلاء المكذبين ، إنما هى تسجيل اللعنة عليهم ، والطرد والحرمان من رحمة الله ، مشيرا إلى أسباب ذلك الحرمان الماثلة في ظلمهم الذي كونه صدهم عن سبيل الله ، وبغيهم إياها عوجا وانحرافا وكفرهم بدار الجزاء .
ثم بين - سبحانه - ما جرى بعد ذلك فقال : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } .
التأذن : رفع الصوت بالإعلام بالشىء . واللعنة : الطرد والإبعاد مع الخزى والإهانة .
والمعنى : بعد أن قامت الحجة على الكافرين وثبت الفوز للمؤمنين . نادى مناد بين الفريقين بقوله : لعنة الله على الظالمين لأنفسهم ، ولغيرهم ، الذين من صفاتهم أنهم يمنعون الناس عن اتباع شريعة الله ، ويريدون لها أن تكون معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها الناس ، وهم بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب جاحدون مكذبون .
وفى قوله : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } . نكر المؤذن ؛ لأن معرفته غير مقصودة بل المقصود بالإعلام بما يكون هناك من الأحكام ولم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شىء ، فهو من أمور الغيب التي لا تعلم علما صحيحا إلا بالتوقيف المستند إلى الوحى ، وما ورد في ذلك فهو من الآثار التي لا يعتمد عليها .
قال بعض العلماء : " وفى هاتين الآيتين تعرض السورة لمرحلة أخرى من مراحل العذاب ، وهى نداء أصحاب الجنة لأصحاب النار نداء يسجل عليهم الخزى والنكال ، ويشعرهم بالحسرة والندامة ، إذ كذبوا بما يرونه الأن واقعا في مقابلة النعيم الذي صار إليه أهل الإيمان ، وأحسوا به كذلك واقعا .
وفى هذا نرى صورة من الحديث الذي يمثل الرضا والاطمئنان واللذة من جانب . ويمثل الحسرة والذلة والقلق من جانب آخر . ويصور الحكم النافذ الذي لا مرد له ولا محيص عنه يؤذن به مؤذن لا يدرك كنهه ولا يعلم من هو ولا ما صوته ولا كيف يلقى أذانه ، ولا كيف يكون أثر هذا الأذن في نفوس سامعه .
يخبر تعالى بما يخاطب أهل الجنة أهل النار إذا استقروا في منازلهم ، وذلك على وجه التقريع والتوبيخ : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا [ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ] }{[11748]} أن " هاهنا مفسِّرة للقول المحذوف ، و " قد " للتحقيق ، أي : قالوا لهم : { قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } كما أخبر تعالى في سورة " الصافات " عن الذي كان له قرين من الكفار : { فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ الآيات : 55 - 59 ]
أي : ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا ، ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال ، وكذا{[11749]} تقرعهم الملائكة يقولون لهم : { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 14 - 16 ] وكذلك قرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر ، فنادى : " يا أبا جهل بن هشام ، ويا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة - وسمى رءوسهم - : هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا " . وقال{[11750]} عمر : يا رسول الله ، تخاطب قومًا قد جَيفوا ؟ فقال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا " . {[11751]}
وقوله : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أي : أعلم معلم ونادى مُنَاد : { أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } أي : مستقرة عليهم .
هذا إخبار من الله عز وجل عما يكون منهم ، وعبر عن معان مستقبلة بصيغة ماضية وهذا حسن فيما يحقق وقوعه ، وهذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تقريع وتوبيخ وزيادة في الكرب وهو بأن يشرفوا عليهم ويخلق الإدراك في الأسماع والأبصار ، وقرأ جمهور الناس «نعَم » بفتح العين ، وقرأ الكسائي «نعِم » بكسر العين ورويت عن عمر بن الخطاب وعن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأها ابن وثاب والأعمش قال الأخفش هما لغتان ، ولم يحك سيبويه الكسر ، وقال : «نعم » عدة وتصديق أي مرة هذا ومرة هذا ، وفي كتاب أبي حاتم عن الكسائي عن شيخ من ولد الزبير قال : ما كنت أسمع أشياخ قريش يقولون : إلا «نعِم » بكسر العين ثم فقدتها بعده ، وفيه عن قتادة عن رجل من خثعم قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت تزعم أنك نبي : ؟ قال : «نعِم » بكسر العين ، وفيه عن أبي عثمان النهدي قال : سأل عمر عن شيء فقالوا نعم ، فقال عمر : النعم الإبل والشاء ، وقولوا «نعِم » بكسر العين . قال أبو حاتم : وهذه اللغة لا تعرف اليوم بالحرمين ، وقوله { فأذن مؤذن بينهم } الآية ؛ قال أبو علي الفارسي والطبري وغيرهما : «أذن مؤذن » بمعنى أعلم معلم ، قال سيبويه : أذنت إعلام بتصويت ، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل ونافع وأبو عمر وعاصم «أنْ لعنةُ الله » بتخفيف «أنْ » من الثقيلة ورفع اللعنة .
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير في رواية البزي وشبل «أنّ لعنةَ » بتثقيل «أنّ » ونصب اللعنة ، وكلهم قرأ التي في النور { أنّ لعنة الله } [ النور : 7 ] و { أنّ غضب الله } [ النور : 9 ] بتشديد النون غير نافع فإنه قرأهما «أنْ لعنة الله وأنْ غضب » مخففتين ، وروى عصمة عن الأعمش «مؤذن بينهم إن » بكسر الألف على إضمار قال .
قال القاضي أبو محمد : لما كان الأذان قولاً ، و «الظالمون » في هذه الآية : الكافرون ، ثم ابتدأ صفتهم بأفعالهم في الدنيا ليكون علامة أن أهل هذه الصفة هم المراد يوم القيامة بقوله { أن لعنة الله على الظالمين } .
جملة : { ونادى أصحاب الجنّة } يجوز أن تكون معطوفة على جملة { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } [ الأعراف : 43 ] إلخ ، عطفَ القول على القول ، إذْ حكي قولهم المنبيءُ عن بهجتهم بما هم فيه من النّعيم ، ثمّ حكي ما يقولونه لأهل النّار حينما يشاهدونهم .
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } [ الأعراف : 43 ] عطف القصّة على القصّة بمناسبة الانتقال من ذكر نداء من قبل الله إلى ذكر مناداة أهل الآخرة بعضِهم بعضاً ، فعلى الوجهين يكون التعبير عنهم بأصحاب الجنّة دون ضميرهم توطئة لذكر نداء أصحاب الأعراف ونداء أصحاب النّار ، ليعبَّر عن كلّ فريق بعنوانه وليكون منه محسن الطباق في مقابلته بقوله : { أصحاب النار } .
وهذا النّداء خطاب من أصحاب الجنّة ، عبّر عنه بالنّداء كناية عن بلوغه إلى أسماع أصحاب النّار من مسافة سحيقة البُعد ، فإن سعة الجنّة وسعة النّار تقتضيان ذلك لا سيما قوله : { وبينهما حجاب } [ الأعراف : 46 ] ، ووسيلة بلوغ هذا الخطاب من الجنّة إلى أصحاب النّار وسيلة عجيبة غير متعارفة . وعلم الله وقدرتُه لا حدّ لمتعلّقاتهما .
و ( أنّ ) في قوله : { أن قد وجدنا } تفسيرية للنّداء . والخبر الذي هو { قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } مستعمل في لازم معناه وهو الاغتباط بحالهم ، وتنغيص أعدائهم بعلمهم برفاهيّة حالهم ، والتوركُ على الأعداء إذ كانوا يحسبونهم قد ضلّوا حين فارقوا دين آبائهم ، وأنّهم حَرموا أنفسهم طيّبات الدّنيا بالانكفاف عن المعاصي ، وهذه معاننٍ متعدّدة كلّها من لوازم الإخبار ، والمعاني الكنائيّة لا يمتنع تعدّدها لأنّها تبع للّوازمِ العقليّة ، وهذه الكناية جمع فيها بين المعنى الصّريح والمعاني الكنائيّة ، ولكنّ المعاني الكنائيّة هي المقصودة إذ ليس القصد أن يَعلم أهل النّار بما حصل لأهل الجنّة ولكن القصد ما يلزم عن ذلك . وأمّا المعاني الصّريحة فمدلولة بالأصالة عند عدم القرينة المانعة .
والاستفهام في جملة : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } مستعمل مجازاً مرسلاً بعلاقة اللّزوم في توقيف المخاطبين على غلطهم ، واثارة ندامتهم وغمّهم على ما فرط منهم ، والشّماتة بهم في عواقب عنادهم . والمعاني المجازيّة التي علاقتها اللّزوم يجوز تعدّدها مثل الكناية ، وقرينة المجاز هي : ظهور أنّ أصحاب الجنّة يعلمون أنّ أصحاب النّار وجدوا وعده حقاً .
والوجدان : إلفاء الشّيء ولقيّه ، قال تعالى : { فوجد فيها رجلين يقتتلان } [ القصص : 15 ] وفِعله يتعدّى إلى مفعول واحد ، قال تعالى : { ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] ويغلب أن يذكر مع المفعول حالُه ، فقوله : { وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } معناه ألفيناه حالَ كونه حقاً لا تخلّف في شيء منه ، فلا يدلّ قوله : { وجدنا } على سبق بحث أو تطلب للمطابقة كما قد يتوهّم ، وقد يستعمل الوجدان في الإدراك والظنّ مجازاً ، وهو مجاز شائع .
و ( ما ) موصولة في قوله : { مَا وعدنا ربّنا } و { مَا وعد ربّكم } ودَلت على أنّ الصّلة معلومة عند المخاطبين ، على تفاوت في الإجمال والتّفصيل ، فقد كانوا يعلمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وعد المؤمنين بنعيم عظيم ، وتوعّد الكافرين بعذاب أليم ، سمع بعضهم تفاصيل ذلك كلَّها أو بعضها ، وسمع بعضهم إجمالها : مباشرة أو بالتّناقل عن إخوانهم ، فكان للموصولية في قوله : { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } إيجازٌ بديع ، والجواب بنَعَم تحقيق للمسؤول عنه بهل : لأنّ السؤال بهَل يتضمّن ترجيح السّائل وقوع المسؤول عنه ، فهو جوابُ المقرّ المتحسّر المعترف ، وقد جاء الجواب صالحاً لظاهر السّؤال وخفيِّه ، فالمقصود من الجواب بها تحقيق ما أريد بالسؤال من المعاني حقيقة أو مجازاً ، إذ ليست نعَم خاصة بتحقيق المعاني الحقيقيّة .
وحذف مفعول ( وعَدَ ) الثّاني في قوله : { ما وعد ربكم } لمجرّد الإيجاز لدلالة مقابله عليه في قوله : { ما وعدنا ربنا } لأنّ المقصود من السّؤال سؤالهم عمّا يخصّهم . فالتّقدير : فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم ، أي من العذاب لأنّ الوعد يستعمل في الخير والشرّ .
ودلّت الفاء في قوله : { فأذّن مؤذن } على أنّ التّأذين مسبّب على المحاورة تحقيقاً لمقصد أهل الجنّة من سؤال أهل النّار من إظهار غلطهم وفساد معتقدهم .
والتّأذينُ : رفع الصّوت بالكلام رفعاً يُسمع البعيد بقدر الإمكان وهو مشتقّ من الأذن بضمّ الهمزة جارحةِ السمع المعروفة ، وهذا التّأذين إخبار باللّعن وهو الإبعاد عن الخير ، أي إعلام بأنّ أهل النّار مبعدون عن رحمة الله ، زيادة في التّأييس لهم ، أو دعاء عليهم بِزيادة البعد عن الرّحمة ، بتضعيف العذاب أو تحقيق الخلود ، ووقُوع هذا التأذين عقب المحاورة يعلَم منه أنّ المراد بالظّالمين ، وما تبعه من الصّفات والأفعال ، هم أصحاب النّار ، والمقصود من تلك الصّفات تفظيع حالهم ، والنّداء على خبْثثِ نفوسهم ، وفساد معتقدهم .
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وقُنبل عن ابن كثير : { أنْ لعنة الله } بتخفيف نون ( أن ) على أنّها تفسيريّة لفعل ( أذّنَ ) ورفععِ ( لعنة ) على الابتداء والجملة تفسيرية ، وقرأه الباقون بتشديد النّون وبنصب ( لعنة ) على ( أنّ ) الجملة مفعول ( أذّن ) لتضمنه معنى القَول ، والتّقدير : قائلاً أنّ لعنة الله على الظّالمين .
والتّعبير عنهم بالظّالمين تعريف لهم بوصف جرى مجرى اللّقب تعرف به جماعتهم ، كما يقال : المؤمنين ، لأهل الإسلام ، فلا ينافي أنّهم حين وُصِفوا به لم يكونوا ظالمين ، لأنّهم قد علّموا بطلان الشّرك حقّ العلم وشأن اسم الفاعل أن يكون حقيقة في الحال مجازاً في الاستقبال ، ولا يكون للماضي ، وأمّا إجراء الصّلة عليهم بالفعلين المضارعين في قوله : { يَصدّون } وقوله : { ويَبغونها } وشأنُ المضارع الدّلالة على حدث حاصل في زمن الحال ، وهم في زمن التّأذين لم يكونوا متّصفين بالصدّ عن سبيل الله ، ولا ببغي عوج السّبيل ، فذلك لقصد ما يفيده المضارع من تكرّر حصول الفعل تبعاً لمعنى التّجدّد ، والمعنى وصفهم بتكرّر ذلك منهم في الزّمن الماضي ، وهو معنى قول علماء المعاني استحضار الحالة ، كقوله تعالى في الحكاية عن نوح : { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] مع أنّ زمن صنع الفلك مضى ، وإنّما قصد استحضار حالة التّجدّد ، وكذلك وصفهم باسم الفاعل في قوله : { وهم بالآخرة كافرون } فإن حقه الدلالة على زمن الحال ، وقد استعمل هنا في الماضي : أي كافرون بالآخرة فيما مضى من حياتهم الدّنيا ، وكلّ ذلك اعتماد على قرينة حال السّامعين المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من صيغة المضارع وصيغة اسم الفاعل ، إذ قد عَلِم كلّ سامع أنّ المقصودين صاروا غير متلبّسين بتلك الأحداث في وقت التّأذين ، بل تلبّسوا بنقائضها ، فإنّهم حينئذ قد علموا الحقّ وشاهدوه كما دلّ عليه قولهم : { نَعَم } . وإنَّما عُرّفوا بتلك الأحوال الماضية لأنّ النّفوس البشريّة تعرّف بالأحوال التي كانت متلبسة بها في مدّة الحياة الأولى . فبالموت تنتهي أحوال الإنسان فيستقر اتّصاف نفسه بما عاشت عليه ، وفي الحديث : " يبعث كلّ عبد على ما مات عليه " رواه مسلم ، ويجوز أن تكون هذه اللّعنة كانت الملائكة يَلعنونهم بها في الدّنيا . فجهروا بها في الآخرة ، لأنّها صارت كالشّعار للكفرة ينادَون بها ، وهذا كما جاء في الحديث : " يؤتى بالمؤذّنين يوم القيامة يصرخون بالأذان " مع أنّ في ألفاظ الأذان ما لا يقصد معناه يومئذ وهو : « حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح » . وفي حكاية ذلك هنا إعلام لأصحاب هذه الصّفات في الدّنيا بأنّهم محقوقون بلعنة الله تعالى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ونادى أهل الجنة أهل النار بعد دخولهموها: يا أهل النار قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّا -في الدنيا- على ألسن رسله من الثواب على الإيمان به وبهم وعلى طاعته، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم على ألسنتهم على الكفر به وعلى معاصيه من العقاب؟ فأجابهم أهل النار بأن: نعم، قد وجدنا ما وعد ربنا حقّا...
وأما قوله:"فَأذّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ" يقول: فنادى منادٍ، وأعلم معلم بينهم، "أنْ لَعَنَةُ اللّهِ على الظّالِمِينَ "يقول: غضب الله وسخطه وعقوبته على من كفر به...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والغرض بهذا النداء تبكيت الكفار وتوبيخهم، وأن الله تعالى صدق فيما وعد به على لسان نبيه ليحزن الكفار بذلك ويتحسروا عليه.
وقوله "وجدنا ما وعدنا ربنا حقا "إنما أضافوا الوعد بالجنة إلى نفوسهم، لأن الكفار ما وعدهم الله بالجنة والثواب إلا بشرط أن يؤمنوا، فلما لم يؤمنوا فكأنهم لم يوعدوا، وكذلك قوله "ما وعد ربكم" يعنون من العقاب لأن المؤمنين لما كانوا مطيعين مستحقين للثواب فكأنهم لم يوعدوا بالعقاب، وانما خص الكفار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا إخبار من الله عز وجل عما يكون منهم، وعبر عن معان مستقبلة بصيغة ماضية وهذا حسن فيما يحقق وقوعه، وهذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تقريع وتوبيخ وزيادة في الكرب وهو بأن يشرفوا عليهم ويخلق الإدراك في الأسماع والأبصار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما استقرت بهم الدار، ونودوا بدوام الاستقرار، أخبر سبحانه أنهم أقبلوا متبجحين على أهل النار شامتين بهم في إحلالهم دار البوار تلذيذاً لأنفسهم بالنعيم وتكديراً على الأشقياء في قوله: {ونادى أصحاب الجنة} أي بعد دخول كل من الفريقين إلى داره {أصحاب النار} يخبرونهم بما أسبغ عليهم من النعم، ويقررونهم بما كانوا يتوعدونهم به من حلول النقم؛ ثم فسر ما وقع له النداء بقوله: {أن}، وذكر حرف التوقع لأنه محله فقال: {قد وجدنا} أي بالعيان كما كنا واجدين له بالإيمان {ما وعدنا ربنا} أي المحسن إلينا في الدارين من الثواب {حقاً} أي وجدنا جميع ما وعدنا ربنا لنا ولغيرنا حقاً كما كنا نعتقد {فهل وجدتم} أي كذلك {ما وعد} وأثبت المفعول الأول تلذيذاً، وحذفه هنا احتقاراً للمخاطبين، وليشمل ما للفريقين فيكون وجد بمعنى العلم وبمعنى اللقى، وفي التعبير بالوعد دون الوعيد مع ذلك تهكم بهم {ربكم} أي الذي أحسن إليكم فقابلتم إحسانه بالكفران من العقاب {حقاً} لكونكم وجدتم ما توعدكم به ربكم حقاً {قالوا نعم} أي قد وجدنا ذلك كله حقاً. ولما حبوا من النعم بما تقدم، وكان منه الجار الحسن، وكان العيش مع ذلك لا يهنأ إلا بإبعاد جار السوء، أخبروا ببعده وزيدوا سروراً بإهانته في قوله: {فأذن} أي بسبب ما أقر به أهل النار على أنفسهم {مؤذن بينهم} أي بين الفريقين {أن لعنة الله} أي طرد الملك الأعظم وإبعاده على وجه الغضب {على الظالمين} أي الذين كانوا مع البيان الواضح يضعون الأشياء في غير مواضعها كحال من لم ير نوراً أصلاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذا السؤال من السخرية المرة ما فيه.. إن المؤمنين على ثقة من تحقق وعيد الله كثقتهم من تحقق وعده. ولكنهم يسألون! ويجيء الجواب في كلمة واحدة.. نعم..! وعندئذ ينتهي الجواب، ويقطع الحوار: (فأذن مؤذن بينهم: أن لعنة الله على الظالمين).