وقوله - سبحانه - : { أولى لَكَ فأولى . ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } دعاء على هذا الإِنسان الشقى ، المصر على إعراضه عن الحق . . بالهلاك وسوء العاقبة . و { أولى } اسم تفضيل من وَلِىَ ، وفاعله ضمير محذوف يقدره كل قائل أو سامع بما يدل على المكروه .
والكاف فى قوله { لك } للتبين ، والكاف خطاب لهذا الإِنسان المخصوص بالدعاء عليه .
قال الله تعالى : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } وهذا تهديد ووعيد أكيد منه تعالى للكافر به المتبختر في مشيته ، أي : يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك ، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . و كقوله : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } [ المرسلات : 46 ] ، وكقوله { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } [ الزمر : 15 ] ، وكقوله { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] . إلى غير ذلك .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - عن إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت سعيد بن جبير قلت : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } ؟ قال : قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل ، ثم نزل به القرآن .
وقال أبو عبد الرحمن النسائي : حدثنا إبراهيم بن يعقوب{[29569]} . حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عَوَانة - ( ح ) وحدثنا أبو داود : حدثنا محمد بن سليمان{[29570]} . حدثنا أبو عوانة - عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } ؟ قال : قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم{[29571]} ثم أنزله الله عز وجل{[29572]} .
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا شعيب عن إسحاق ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } وعيد على أثر وعيد ، كما تسمعون ، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نَبيّ الله بمجامع ثيابه ، ثم قال : " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " . فقال عدو الله أبو جهل : أتوعدني يا محمد ؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا ، وإني لأعز من مشى بين جبليها .
وقوله تعالى : { أولى لك } وعيد ثان ثم كرر ذلك تأكيداً ، والمعنى { أولى لك } الازدجار والانتهاء وهو مأخوذ من ولى ، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجراً ، ومنه قوله تعالى : { فأولى لهم طاعة وقول معروف{[11488]} } [ محمد : 20 ] ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبب أبا جهل يوماً في البطحاء وقال له : «إن الله يقول لك { أولى لك فأولى } » ، فنزل القرآن على نحوها{[11489]} . وفي شعر الخنساء : [ المتقارب ]
سئمت بنفسي كل الهموم*** فأولى لنفسي أولى لها{[11490]}
فقوله : { أولَى لك } وعيد ، وهي كلمة تَوعُّد تجري مَجرى المَثَل في لزوم هذا اللفظ لكن تلحقه علامات الخطاب والغيبة والتكلم ، والمراد به ما يراد بقولهم : ويل لك ، من دعاء على المجرور باللام بعدها ، أي دعاء بأن يكون المكروه أدنى شيء منه .
{ فأوْلى } : اسم تفضيل من وَلي ، وفاعله ضمير محذوف عائد على مقدر معلوم في العرف ، فيقدره كل سامع بما يدل على المكروه ، قال الأصمعي : معناه : قاربكَ ما تَكره ، قالت الخنساء :
همَمْتُ بنفسيَ كُلَّ الهموم *** فأولى لنفسيَ أولى لها
وكان القانص إذا أفلتَه الصيدُ يخاطب الصيد بقوله : { أولى لك } وقد قيل : إن منه قوله تعالى : { فأولى لهم } من قوله : { فأولى لهم طاعة وقول معروف } في سورة القتال ( 20 ، 21 ) على أحد تأويلين يجعل { طاعة وقول معروف } مستأنفاً وليس فاعلاً لاسم التفضيل ، وذهب أبو علي الفارسي إلى أن { أولى } عَلم لمعنى الوَيل وأن وزنه أفْعل من الويل وهو الهلاك ، فأصل تصريفه أوْيَل لك ، أي أشدُّ هلاكاً لك فوقع فيه القلب ( لطلب التخفيف ) بأن أخرت الياء إلى آخر الكلمة وصار أوْلَى بوزن أفلَحَ ، فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفاً فقالوا : أولى في صورة وزن فَعْلى .
والكاف خطاب للإِنسان المصرح به غير مرة في الآيات السابقة بطريق الغيبة إظهاراً وإضماراً ، وعدل هنا عن طريق الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات لمواجهة الإِنسان بالدعاء لأن المواجهة أوقع في التوبيخ ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : أولَى له .
وقوله : { فأولى } تأكيد ل { أَوْلى لك } جيء فيه بفاء التعقيب للدلالة على أنه يدعي عليه بأن يعقبه المكروه ويعقب بدعاء آخر .
قال قتادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل على باب بني مخزوم فأخذ رسول الله فلبَّبَ أبا جهل بثيابه وقال له { أولى لك فأولى ثم أولَى لك فأولى } قال أبو جهل : يتهددني محمد ( أي يستعمل كلمة الدعاء في إرادة التهديد ) فوالله إني لأَعَزُّ أهلِ الوادي . وأنزل الله تعالى { أولى لك فأولى } كما قَال لأبي جهل .