{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى } أقل من ، { ثلثي الليل ونصفه وثلثه } قرأ أهل مكة والكوفة : { نصفه وثلثه } بنصب " الفاء " و " الثاء " وإشباع الهاءين ضماً ، أي : وتقوم نصفه وثلثه وقرأ الآخرون بجر الفاء والثاء وإشباع الهاءين كسراً ، عطفاً على ثلثي ، { وطائفة من الذين معك } يعني المؤمنين وكانوا يقومون معه ، { والله يقدر الليل والنهار } قال عطاء : يريد لا يفوته علم ما تفعلون ، إي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم القدر الذي تقومون من الليل ، { علم أن لن تحصوه } قال الحسن : قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فنزل : { علم أن لن تحصوه } لن تطيقوه . وقال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله ، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام ، فقال : { علم أن لن تحصوه } لن تطيقوا معرفة ذلك . { فتاب عليكم } فعاد عليكم بالعفو والتخفيف ، { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } يعني في الصلاة ، قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء . قال قيس بن حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ، ثم ركع ، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : إن الله عز وجل يقول : فاقرؤوا ما تيسر منه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عثمان بن صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني حميد بن مخراق ، عن أنس بن مالك " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية لم يحاججه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني القاسم بن زكريا بن عبيد الله بن موسى ، عن شيبان ، عن يحيى ، عن محمد عبد الرحمن مولى ابن زهرة ، عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ القرآن في كل شهر ، قال قلت : إني أجد قوة ، قال : فاقرأه في كل عشرين ليلة ، قال قلت : إني أجد قوة ، قال : فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك " . قوله عز وجل : { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } يعني المسافرين للتجارة يطلبون من رزق الله ، { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } لا يطيقون قيام الليل . روى إبراهيم عن ابن مسعود قال : أيما رجل جلب شيئا ماً إلى المدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ، ثم قرأ عبد الله : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه } أي ما تيسر عليكم من القرآن . قال أهل التفسير كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس ، وذلك قوله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً } قال ابن عباس : يريد ما سوى الزكاة من صلة الرحم ، وقرى الضيف . { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً } تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم ، { وأعظم أجراً } من الذي أخرتم ، ولم تقدموه ، ونصب خير وأعظم على المفعول الثاني ، فإن الوجود إذا كان بمعنى الرؤية يتعدى إلى مفعولين ، وهو فصل في قول البصريين ، وعماد في قول الكوفيين ، لا محل له في الإعراب .
أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشمهيني ، أنبأنا أبو نصر أحمد بن علي البخاري بالكوفة ، أنبأنا أبو القاسم نصر بن أحمد الفقيه بالموصل ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن الحارث بن سويد قال : قال عبد الله : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟ قالوا : يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال : اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ، قال : ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر " . { واستغفروا الله } لذنوبكم ، { إن الله غفور رحيم } .
{ 20 } { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه ، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام ، وذكر في هذا الموضع ، أنه امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين .
ولما كان تحرير الوقت المأمور به مشقة على الناس ، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل فقال : { وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : يعلم مقاديرهما وما يمضي منهما ويبقى .
{ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } أي : [ لن ] تعرفوا مقداره من غير زيادة ولا نقص ، لكون ذلك يستدعي انتباها وعناء زائدا أي : فخفف عنكم ، وأمركم بما تيسر عليكم ، سواء زاد على المقدر أو نقص ، { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } أي : مما تعرفون ومما لا يشق عليكم ، ولهذا كان المصلي بالليل مأمورا بالصلاة ما دام نشيطا ، فإذا فتر أو كسل أو نعس ، فليسترح ، ليأتي الصلاة بطمأنينة وراحة .
ثم ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف ، فقال : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى } يشق عليهم صلاة ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ، فليصل المريض المتسهل عليه{[1268]} ، ولا يكون أيضا مأمورا بالصلاة قائما عند مشقة ذلك ، بل لو شقت عليه الصلاة النافلة ، فله تركها [ وله أجر ما كان يعمل صحيحا ] . { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } أي : وعلم أن منكم مسافرين يسافرون للتجارة ، ليستغنوا عن الخلق ، ويتكففوا عن الناس{[1269]} أي : فالمسافر ، حاله تناسب التخفيف ، ولهذا خفف عنه في صلاة الفرض ، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد ، وقصر الصلاة الرباعية .
وكذلك { آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فذكر تعالى تخفيفين ، تخفيفا للصحيح المقيم ، يراعي فيه نشاطه ، من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت ، بل يتحرى الصلاة الفاضلة ، وهي ثلث الليل بعد نصفه الأول .
وتخفيفا للمريض أو المسافر ، سواء كان سفره للتجارة ، أو لعبادة ، من قتال أو جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، ونحو ذلك{[1270]} ، فإنه أيضا يراعي ما لا يكلفه ، فلله الحمد والثناء ، الذي ما جعل على الأمة في الدين{[1271]} من حرج ، بل سهل شرعه ، وراعى أحوال عباده ومصالح دينهم وأبدانهم ودنياهم .
ثم أمر العباد بعبادتين ، هما أم العبادات وعمادها : إقامة الصلاة ، التي لا يستقيم الدين إلا بها ، وإيتاء الزكاة التي هي برهان الإيمان ، وبها تحصل المواساة للفقراء والمساكين ، ولهذا قال :
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } بأركانها ، وشروطها ، ومكملاتها ، { وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } أي : خالصا لوجه الله ، من نية صادقة ، وتثبيت من النفس ، ومال طيب ، ويدخل في هذا ، الصدقة الواجبة ؟ والمستحبة ، ثم حث على عموم الخير وأفعاله فقال : { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا } الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة .
وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار ، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا ، وما عليها في دار النعيم المقيم ، من اللذات والشهوات ، وأن الخير والبر في هذه الدنيا ، مادة الخير والبر في دار القرار ، وبذره وأصله وأساسه ، فواأسفاه على أوقات مضت في الغفلات ، وواحسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات ، وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها ، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها{[1272]} ، فلك اللهم الحمد ، وإليك المشتكى ، وبك المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا بك .
{ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وفي الأمر بالاستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة والخير ، فائدة كبيرة ، وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أمر به ، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص ، فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار ، فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار ، فمتى لم يتغمده الله برحمته ومغفرته ، فإنه هالك .
تم تفسير سورة المزمل{[1273]}
وبعد هذه الإِنذارات المتعددة للمكذبين ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن قيام الليل لعبادة الله - تعالى - وطاعته . . فقال - سبحانه - :
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن . . . } .
المراد بالقيام فى قوله - تعالى - : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ . . . } التهجد بالليل عن طريق الصلاة تقربا إلى الله - تعالى - .
وقوله : { أدنى } بمعنى أقرب ، من الدنو بمعنى القرب ، تقول : رأيت فلانا أدنى إلى فعل الخير من فلان . أى : أقرب ، واستعير هنا للأقل ، لأن المسافة التى بين الشئ والشئ إذا قربت كانت قليلة ، وهو منصوب على الظرفية بالفعل " تقوم " .
وقوله : { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } قرأه بعض القراء السبعة بالجر عطفا على { ثُلُثَيِ الليل } وقرأه الجمهور بالنصب عطفا على أدنى .
والمعنى على قراءة الجمهور : إن ربك - أيها الرسول الكريم - يعلم أنك تقوم من الليل ، مدة قد تصل تارة إلى ثلثى الليل ، وقد تصل تارة أخرى إلى نصفه أو إلى ثلثه . . على حسب ما يتيسر لك ، وعلى حسب أحوال الليل فى الطول والقصر .
والمعنى على قراءة غير الجمهور : إن ربك يعلم أنك تقوم تارة أقل من ثلثى الليل وتارة أقل من نصفه ، وتارة أقل من ثلثه . . وذلك لأنك لم تستطع ضبط المقدار الذى تقومه من الليل ضبطا دقيقا ، ولأن النوم تارة يزيد وقته وتارة ينقص ، والله - تعالى - قد رفع عنك المؤاخذة بسبب عدم تعمدك القيام أقل من ثلث الليل . .
فالآية الكريمة المقصود منها بيان رحمة الله - تعالى - بنبيه صلى الله عليه وسلم حيث قبل منه قيامه بالليل متهجدا ، حتى ولو كان هذا القيام أقل من ثلث الليل . .
وافتتاح الآية الكريمة بقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ . . . } يشعر بالثناء علريه صلى الله عليه وسلم . وبالتلطف معه فى الخطاب ، حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على قيام الليل . على قدر استطاعته ، بدون تقصير أو فتور .
وفى الحديث الشريف : أنه صلى الله عليه وسلم قام الليل حتى تورمت قدماه .
والتعبير بقوله - تعالى - : { أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } يدل على أن قيامه صلى الله عليه وسلم ، وعلى حسب طول الليل وقصره .
وقوله - سبحانه - : { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ } معطوف على الضمير المستتر فى قوله : { تقوم }
أى : أنت أيها الرسول الكريم - تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه ، وتقوم طائفة من أصحابك للصلاة معك ، أما بقية أصحابك فقد يقومون للتهجد فى منازلهم .
روى البخارى فى صحيحه عن عائشة ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة فى المسجد ، فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ، ثم اجتمعوا فى الليلة الثالثة أو الرابعة ، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال : " قد رأيت الذى صنعتم ، ولم يمنعنى من الخروج إليكم ، إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم " " .
قال بعض العلماء : قوله : { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ } معطوف على الضمير المستكن فى { تقوم }
وهو - وإن كان ضمير رفع متصل - ، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف .
والمعنى : أن الله يعلم أنه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك ، واتبعوا هداك . .
وقد يقال : إن هذا يدل على أن قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة ، وهو خلاف ما تقرر تفسيره فى أول السورة ، ويخالف - أيضا - ما دلت عليه الآثار المتقدمة هناك . .
والجواب : أنه ليس فى الآية ما يفيد أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا جميعا يصلون مع النبى صلى الله عليه وسلم صلاة التهجد فى جماعة واحدة ، فلعل بعضهم كان يقيمها فى بيته ، فلا ينافى ذلك فريضة القيام على الجميع . .
وقوله - سبحانه - : { والله يُقَدِّرُ الليل والنهار } بيان لشمول علمه - تعالى - ولنفاذ إرادته . أى : والله - تعالى - وحده ، هو الذى يعلم مقادير ساعات الليل والنهار ، وهو الذى يحدد زمانهما - طولا وقصرا - على حسب ما تقتضيه مشيئته وحكمته .
والآية الكريمة تفيد الحصر والاختصاص ، عن طريق سياق الكلام ، ودلالة المقام .
وقوله - تعالى - : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } مؤكد لما قبله ، وإحصاء الأشياء ، عدها والإِحاطة بها .
والضمير المنصوب فى قوله : { تُحْصُوهُ } يعود على المصدر المفهوم من قوله : { يقدر } فى الجملة السابقة .
والتوبة فى قوله - سبحانه - : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يصح أن تكون بمعنى المغفرة ، وعدم المؤاخذة ، أو بمعنى قبولها منهم ، والتيسير عليهم فى الأحكام ، وتخفيفها عنهم .
أى : والله - تعالى - هو الذى يقدر أجزاء الليل والنهار ، وهو الذى يعلم - دون غيره - أنكم لن تستطيعوا تقدير ساعاته تقديرا دقيقا . . ولذلك خفف الله عنكم فى أمر القيام ، ورفع عنكم المقدار المحدد ، وغفر لكم ما فرط منكم من تقصير غير مقصود ، ورخص لكم أن تقوموا المقدار الذى تستطيعون قيامه من الليل ، مصلين ومتهجدين . .
فالجملة الكريمة تقرر جانبا من فضل الله - تعالى - على عباده ، ومن رحمته بهم .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } للإِفصاح ، والمراد بالقراءة الصلاة ، وعبر عنها بالقراءة ، لأنها من أركانها . . أى : إذا كان الأمر كما وضحت لكم ، فصلوا ما تيسر لكم من الليل .
قال الآلوسى : قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } أى : فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها ، وقيل : الكلام على حقيقته ، من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق .
ومن ذهب إلى الأول قال : إن الله - تعالى - افترض قيام مقدار معين من الليل ، لقوله :
{ قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً . نِّصْفَهُ . . . } الخ . ثم نسخ بقيام مقدار ما منه ، فى قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن . . . } فالأمر فى الموضعين للوجوب ، إلا أن الواجب أولا كان معينا من معينات ، وثانيا كان بعضا مطلقا ، ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس .
ومن قال بالثانى : ذهب إلى أن الله - تعالى - رخص لهم فى ترك جميع القيام بالصلاة ، وأمر بقراءة شئ من القرآن ليلا ، فكأنه قيل : فتاب عليكم ورخص لكم من الترك ، فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، إن شق عليكم القيام . .
وقال الإِمام ابن كثير : وقوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } أى : من غير تحديد بوقت ، أى : لكن قوموا من الليل ما تيسر ، وعبر عن الصلاة بالقراءة ، كما قال فى آية أخرى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } أى : بقراءتك { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } وقد استدل الأحناف بهذه الآية على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة فى الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ، ولو بآية . أجزأه واعتضدوا بحديث المسئ صلاته الذى فى الصحيحين ، وفيه : " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " .
وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ، وهو فى الصحيحين - أيضا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج . . غير تمام " وفى صحيح ابن خزيمة عن أبى هريرة مرفوعا : " لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب " .
وقوله - سبحانه - بعد ذلك : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ . . } بدل اشتمال من جملة : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ . . } ، أو هو كلام مستأنف لبيان الحكمة التى من أجلها خفف الله على المسلمين قيام الليل .
أى : صلوا من الليل على قدر استطاعتكم من غير تحديد بوقت ، فالله - تعالى - يعلم أنكم لا تستطيعون ضبط ساعات الليل ولا أجزائه ، فخفف عليكم لذلك ، ولعلمه - أيضا - أن منكم المرضى الذين يعجزون عن قيام ثلثى الليل أو نصفه أو أقل من ذلك بقليل .
ومنكم - أيضا - الذين { يَضْرِبُونَ فِي الأرض } أى : يسافرون فيها للتجارة وللحصول على مطالب الحياة ، وهم فى كل ذلك يبتغون ويطلبون الرزق من فضله - تعالى - . ومنكم - أيضا - الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله ، ويجاهدون من أجل نشر دينه وما دام الأمر كذلك ، فقد أبحت لكم - بفضلى وإحسانى - أن تصلوا من الليل ما تيسر لكم .
وقد جمع - سبحانه - بين السعى فى الأرض لطلب الرزق ، وبين الجهاد فى سبيله ، للإِشعار بأن الأول لا يقل فى فضله عن الثانى ، متى توفرت فيه النية الطيبة ، وعدم الانشغال به عن ذكر الله - تعالى - .
قال الإِمام القرطبى : سوى الله - تعالى - فى هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال والحلال ، للنفقة على النفس والعيال . . فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد فى سبيل الله .
وفى الحديث الشريف : " ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد ، فيبيعه بسعر يومه ، إلا كانت منزلته عند الله كمنزلة الشهداء ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية . . " .
وأعيدت جملة { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } لتأكيد التيسير والتخفيف وتقريره ، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر ، وهى قوله - تعالى - : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } أى : وأدوها كاملة الأركان والخشوع والسنن . . فى وقتها بدون تأخير .
{ وَآتُواْ الزكاة } أى : قدموها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهما .
قال ابن كثير : أى : أقيموا الصلاة الواجبة عليكم ، وآتوا الزكاة المفروضة ، وهذا يدل لمن قال : إن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النصاب لم تبين إلا بالمدينة . .
وقوله : { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } . والقرض : ما قدمته لغيرك من مال ، على أن يرده إليك بعد ذلك . والمراد من إقراض الله - تعالى - : إعطاء الفقراء والمساكين ما يحتاجونه على سبيل المعاونة والمساعدة .
وشبه - سبحانه - إعطاء الصدقة للمحتاج ، بقرض يقدم له - تعالى - ، للإِشعار بأن ما سيعطى لهذا المحتاج ، سعود إضعافه على المعطى . لأن الله - تعالى - قد وعد أن يكافئ على الصدقة بعشر أمثالها ، وهو - سبحانه - بعد ذلك يضاعف لمن يشاء الثواب والعطاء .
ووصف القرض بالحسن ، لحض النفوس على الإخلاص وعلى البعد عن الرياء والأذى . .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ } أى : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وافعلوا ما تستطيعونه - بعد ذلك - من وجوه الخير ، وما تقدموا لأنفسكم من هذا الخير الذى يحبه - سبحانه - { تَجِدُوهُ عِندَ الله } أى : تجدوا ثوابه وجزاءه عند الله - تعالى - ، ففى الكلام إيجاز بالحذف ، وقد استغنى عن المحذوف بذكر الجزاء عليه . والهاء فى قوله { تَجِدُوهُ } هو المفعول الأول .
والضمير المنفصل فى قوله : { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } هو ضمير الفصل . . . { خَيْراً } هو المفعول الثانى . أى : كل فعل موصوف بأنه خير ، تقدمونه عن إخلاص لغيركم ، لن يضيع عند الله - تعالى - ثوابه ، بل ستجدون جزاءه وثوابه مضاعفا عند الله - تعالى - .
{ واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى : وواظبوا على الاستغفار وعلى التوبة النصوح ، وعلى التضرع إلى الله - تعالى - أن يغفر لكم ما فرط منكم ، فإنه - سبحانه - واسع المغفرة والرحمة ، لمن تاب إليه وأناب . .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ } أي : تارة هكذا ، وتارة هكذا ، وذلك كله من غير قصد منكم ، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل ؛ لأنه يشق عليكم ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : تارة يعتدلان ، وتارة يأخذ هذا من هذا ، أو هذا من هذا ، { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } أي : الفرض الذي أوجبه عليكم { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } أي : من غير تحديد بوقت ، أي : ولكن قوموا من الليل ما تيسر . وعبر عن الصلاة بالقراءة ، كما قال في سورة سبحان : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي : بقراءتك ، { وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة ، رحمه الله ، بهذه الآية ، وهي قوله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ، ولو بآية ، أجزأه ؛ واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين : " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " .
وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ، وهو في الصحيحين أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " {[29439]} وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاج ، فهي خِدَاج ، فهي خِدَاج ، غير تمام " . {[29440]} وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا : " لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن " . {[29441]}
وقوله : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل ، من مرضى لا يستطيعون ذلك ، ومسافرين{[29442]} في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر ، وآخرين مشغولين{[29443]} بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله وهذه الآية - بل السورة كلها - مكية ، ولم يكن القتال شُرع بعد ، فهي من أكبر دلائل النبوة ، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة . ولهذا قال : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } {[29444]} أي : قوموا بما تيسر عليكم منه .
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أبي رجاء محمد ، قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه ، ولا يقوم به ، إنما يصلي المكتوبة ؟ قال : يتوسَّدُ القرآن ، لعن الله ذاك ، قال الله تعالى للعبد الصالح : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } [ يوسف : 68 ]
{ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ } قلت : يا أبا سعيد ، قال الله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } ؟ قال : نعم ، ولو خمس آيات .
وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري : أنه كان يرى حقًا واجبًا على حَمَلة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل ؛ ولهذا جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح ، فقال : " ذاك رجل بال الشيطان في أذنه " . {[29445]} فقيل معناه : نام عن المكتوبة . وقيل : عن قيام الليل . وفي السنن : " أوتِرُوا يا أهل القرآن . " {[29446]} وفي الحديث الآخر : " من لم يوتر فليس منا " . {[29447]}
وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر عبد العزيز ، من الحنابلة ، من إيجابه قيام شهر رمضان ، فالله أعلم .
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجُدّي ، حدثنا أبو [ حمة ]{[29448]} محمد بن يوسف الزبيدي ، حدثنا عبد الرحمن ، [ عن محمد بن عبد الله ]{[29449]} بن طاوس - من ولد طاوس - عن أبيه ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } قال : " مائة آية " . {[29450]}
وهذا حديث غريب جدًا لم أره إلا في معجم الطبراني ، رحمه الله .
وقوله : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } أي : أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم ، وآتوا الزكاة المفروضة . وهذا يدل لمن قال : إن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النّصب والمَخْرَج لم تُبَين إلا بالمدينة . والله أعلم .
وقد قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من السلف : إن هذه الآية نَسَخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل . واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم . وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل : " خمس صلوات في اليوم والليلة " . قال : هل عليّ غيرها ؟ قال : " لا إلا أن تَطوّع " . {[29451]}
وقوله تعالى : { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } يعني : من الصدقات ، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره ، كما قال : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] .
وقوله : { وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا } أي : جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو [ خير ] {[29452]} لكم حاصل ، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو خَيْثَمة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الحارث بن سُوَيد{[29453]} قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟ " . قالوا : يا رسول الله ، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال : " اعلموا ما تقولون " . قالوا : ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ؟ قال : " إنما مال أحدكم ما قَدّم ومال وارثه ما أخر " .
ورواه البخاري من حديث حفص بن غياث ، والنسائي من حديث{[29454]} أبي معاوية ، كلاهما عن الأعمش ، به . {[29455]}
ثم قال تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها ؛ فإنه غفور رحيم لمن استغفره .
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه استعار الأدنى للأقل لأن الأقرب إلى الشيء أقل بعدا منه وقرأ ابن كثير والكوفيون ونصفه وثلثه بالنصب عطفا على أدنى وطائفة من الذين معك ويقوم ذلك جماعة من أصحابك والله يقدر الليل والنهار لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى فإن تقديم اسمه مبتدأ مبنيا عليه يقدر يشعر بالاختصاص ويؤيده قوله علم أن لن تحصوه أي لن تحصوا تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات فتاب عليكم بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة فيه كما رفع التبعة عن التائب فاقرؤوا ما تيسر من القرآن فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل عبر عن الصلاة بالقرآن كما عبر عنها بسائر أركانها قيل كان التهجد واجبا على التخيير المذكور فعسر عليهم القيام به فنسخ به ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس أو فاقرؤوا القرآن بعينه كيفما تيسر عليكم علم أن سيكون منكم مرضى استئناف يبين حكمة أخرى مقتضية الترخيص والتخفيف ولذلك كرر الحكم مرتبا عليه وقال وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله والضرب في الأرض ابتغاء للفضل المسافرة للتجارة وتحصيل العلم وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة المفروضة وآتو الزكاة الواجبة وأقرضوا الله قرضا حسنا يريد به الأمر في سائر الانفاقات في سبل الخيرات أو بأداء الزكاة على أحسن وجه والترغيب فيه بوعد العوض كما صرح به في قوله وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت أو من متاع الدنيا و خيرا ثاني مفعولي تجدوه وهو تأكيد أو فصل لأن أفعل من كالمعرفة ولذلك يمتنع من حرف التعريف وقرئ هو خير على الابتداء والخبر واستغفروا الله في مجامع أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط إن الله غفور رحيم .
وقوله تعالى : { إن ربك يعلم } الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمر استعماله من قيام الليل إما على الوجوب أو على الندب حسب الخلاف الذي ذكرناه ، ومعنى الآية : أن الله تعالى يعلم أنك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياماً مختلفاً فيه ، مرة يكثر ومرة يقل ، ومرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من الثلث ، وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمن مع عدم النوم ، وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى ، وأما البشر فلا يحصي ذلك فتاب الله عليهم ، أي رجع بهم من الثقل إلى الجنة وأمرهم بقراءة { ما تيسر } ، ونحو هذا يعطي عبارة الفراء ومنذر فإنهما قالا { تحصوه } تحفظوه ، وهذا التأويل هو على قراءة من قرأ «ونصفِه وثلثِ » بالخفض عطفاً على الثلثين ، وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر . وأما من قرأ «ونصفَه وثلثَه » بالنصب عطفاً على { أدنى } وهي قراءة باقي السبعة ، فالمعنى عنده آخر ، وذلك أن الله تعالى قرر أنهم يقدرون الزمان على نحو ما أمر به في قوله { نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه } [ المزمل : 3-4 ] ، فلم يبق إلا أن يكون قوله { لن تحصوه } [ بمعنى ]{[11402]} لن تستطيعوا قيامه لكثرته وشدته فخفف الله عنكم فضلاً منه لا لقلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الوقت ، ونحو هذا تعطي عبارة الحسن وابن جبير { تحصوه } تطيعوه ، وقرأ جمهور القراء والناس «وثلُثه » بضم اللام ، وقرأ ابن كثير في رواية شبل عنه : «وثلْثه » بسكون اللام . وقوله تعالى : { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } إباحة ، هذا قول الجمهور ، وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو خمسين آية ، وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ، ولو قدر حلب شاة ، إلا أن الحسن قال : من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن ، واستحسن هذا جماعة من العلماء ، قال بعضهم : والركعتان بعد العتمة مع الوتر مدخلتان في حكم امتثال هذا الأمر ، ومن زاد زاده الله ثواباً . و { أن } في قوله تعالى : { علم أن } مخففة من الثقيلة . والتقدير أنه يكون ، فجاءت السين عوضاً من المحذوف ، وكذلك جاءت لا في قول أبي محجن : [ الطويل ]
ولا تدفنني بالفلاة فإنني . . . أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها{[11403]}
والضرب في الأرض : هو السفر للتجارة ، وضرب الأرض هو المشي للتبرز والغائط{[11404]} .
فذكر الله تعالى أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل وهي المرض والسفر في تجارة أو غزو ، فخفف عنه القيام لها . وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض بل تجارة وسوق لها مع سفر الجهاد ، وقال عبد الله بن عمر : أحب الموت إليَّ بعد القتل في سبيل الله أن أموت بين شعبتي رحلي{[11405]} أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ، ثم كرر الأمر . بقراءة ما تيسر منه تأكيداً و { الصلاة } و { الزكاة } هما المفروضتان ، ومن قال إن القيام بالليل غير واجب قال معنى الآية خذوا من هذا الثقل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم ، ومن قال إن شيئاً من القيام واجب قال : قرنه الله بالفرائض لأنه فرض . وإقراض الله تعالى : هو إسلاف العمل الصالح عنده . وقرأ جمهور الناس «هو خيراً » على أن يكون هو فصلاً ، وقرأ محمد بن السميفع وأبو السمال «هو خيرُ » بالرفع على أن يكون { هو } ابتداء ، و «خير » خبره والجملة تسد مسد المفعول الثاني ل { تجدوه } . ثم أمر تعالى بالاستغفار وأوجب لنفسه صفة الغفران لا إله غيره ، قال بعض العلماء فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون }{[11406]} [ الذاريات : 17 ] .
قال القاضي أبو محمد : وعهدت أبي رحمه الله يستغفر إثر كل مكتوبة ثلاثاً بعقب السلام ويأثر{[11407]} في ذلك حديثاً ، فكأن هذا الاستغفار من التقصير وتفلت الفكر أثناء الصلاة ، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح .
نجز تفسير سورة «المزمل » بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد وآله .