تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

الآية 20 : وقوله تعالى : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } قال أبو عبيد : الصواب أن يقرأ : ونصفه وثلثه بالخفض{[22492]} على معنى إضافة أدنى إليهما ؛ فكأنه يقول : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وأدنى من نصفه[ وأدنى من ثلثه ]{[22493]} وأدنى يكون على الزيادة والنقصان جميعا ، لأن فضل ما بين الثلث إلى النصف ، هو السدس . فإذا زاد على الثلث أقل من نصف السدس ، فهو إلى الثلث أدنى ، وكذلك إذا نقص من الثلث شيئا قليلا ، فهو إلى الثلث قريب ، فيكون إليه أدنى .

وكذلك الفضل في ما بين النصف إلى الثلثين ، هو السدس ، فإذا زاد على النصف أكثر من نصف السدس ، فهو إلى الثلثين{[22494]} أدنى ، وإذا نقص من نصف السدس ، فهو إلى النصف أدنى وأقرب .

ومنهم من اختار النصب فيهما ، والوجهان جميعا محتملان ، لأن قوله : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه } ليس فيه إيجاب حكم مبتدأ ، وإنما فيه إخبار عن القيام الذي وجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فجائز أن يكون وجد منه ذلك كله ، وهو أن يكون قريبا من الثلثين وقريبا من النصف وأدنى من الثلث على ما ذكره أهل المقالة الأولى ، ويكون قد قام أدنى من ثلثي الليل ، وقام نصفه وثلثه وأدنى من نصفه وأدنى من ثلثه ، فذكر في الثلثين الأدنى لما وجد منه الأدنى من جهة الزيادة والنقصان ، ولم توجد موافقة الثلثين .

وأخبر بالنصف والثلث بالأمرين جميعا لوجود الموافقة ، وهو أن يكون قام نصف الليل ، وقام ثلثه ، وقام أدنى من النصف وأدنى من الثلث .

وإذا كان هذا كله محتملا ، لم يجز أن يدفع أحد الوجهين ، ويتمسك بالوجه الآخر ، وهذا كقوله تعالى : { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء }[ الإسراء : 102 ] فقرئ برفع{[22495]} التاء ونصبه جميعا لما وجد الأمران جميعا ؛ وهو أن يكون موسى عليه السلام وفرعون علما[ بها ]{[22496]} أي بالآيات جميعا .

وكذلك قوله{[22497]} في سورة سبأ : { ربنا باعد بين أسفارنا }[ الآية : 19 ] وقرئ ربنا باعد{[22498]} لوجود الأمرين جميعا ، وهما{[22499]} الدعاء والإجابة . فقوله عز وجل : { ربنا باعد } دعاء ، وقوله : ربنا باعد على الإجابة ، ففرق بينهما بالإعراب ، فكذلك ههنا لما استقام وجود الوجهين من رسول الله صلى الله عليه وسلم استقام أن يقرأ بالنصب والخفض جميعا ، ويفرق بينهما بالإعراب ، والله أعلم .

ثم يجوز أن يكون المفروض من القيام قدر ثلث الليل ، وتكون الزيادة[ بحكم النافلة ، ويجوز أن يكون ]{[22500]} كله مفروضا ، وإن طال ، وزاد على الثلث والنصف والثلثين{[22501]} . فإن كان[ فإنه ]{[22502]} يجوز الاقتصار على ثلث الليل .

ألا ترى أن فرض الركوع والسجود يقضى{[22503]} بإدراك جزء منه ؟ وكذلك فرض القيام [ يقضى ]{[22504]} بالجزء منه .

ثم إن الركوع وإن طال ، فهو من أوله إلى آخره فرض حتى لو أن داخلا شاركه في أول الركوع ، ثم رفع رأسه ، وشاركه ثالث في آخر ركوعه ، ثم رفع رأسه مع الإمام ، صار[ كل ]{[22505]} واحد منهم مدركا لفرض الركوع ، وإن كان الإمام ، لو اقتصر على جزء منه ، كفاه ذلك عن فرضه .

فكذلك الفرض لما انصرف إلى قيام الليل ، فصار جميع ما يؤتى من القيام في الليل ، وإن طال ، فرضا ، وإن كان قد يجوز الاجتزاء ببعضه .

وقوله تعالى : { وطائفة من الذين معك } في هذه الآية وفي قوله عز وجل : { فتاب عليكم } دليل على أن فرض القيام كان على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى من تبعه من المؤمنين ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخصوص بالخطاب بقوله : { يا أيها المزمل } لأنه لو لم يكن/ 608 – ب/ الفرض شاملا عليهم لم يكن لقوله : { فتاب عليكم } معنىً .

ألا ترى أنه إذا لم يفرض علينا قيام الليل في يومنا هذا لم نحتج في ترك القيام إلى أن يتوب الله علينا ؟ .

ثم إن الله تعالى ، ذكر في التوبة{[22506]} وفي ما فيه النسخ خطابا يجمع الجميع بقوله : { فتاب عليكم } وبقوله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }[ وذكر ]{[22507]} في ما فيه الأمر خطابا يقتضي الآحاد ، وهو قوله : { قم الليل إلا قليلا }{ نصفه أو انقص منه قليلا }[ الآيتان2و3 ] ففي هذا أنه قد يجوز أن يخاطب النبيَّ صلى الله عليه وسلم على إدخال غيره فيه تبعا له ، ولا يجوز أن يخاطب غير النبي صلى الله عليه وسلم ويراد به{[22508]} النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الخطاب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتبوع .

فجائز إلحاق غيره به ، وغيره لا يكون متبوعا حتى يلحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى : { والله يقدر الليل والنهار } ففيه أن الليل والنهار ، ليسا يمضيان على الجزاف ، ولكن بتقدير سبق من الله عز وجل وآية ذلك ظاهرة{[22509]} لأنهما يجريان مذ خلقا على تقدير واحد ، لم يتقدما ، ولم يتأخرا ، ولم ينقصا ، ولم يزادا ، فيكون فيه إبانة أن مدبرهما واحد وأن{[22510]} الذي قدرهما هكذا من لا يبيد ملكه ، ولا ينفذ سلطانه .

وقوله تعالى : { علم أن لن تحصوه } قال بعضهم : علم أن لن تطيقوه . قال أبو بكر الأصم : هذا لا يستقيم ، لأنه جائز أن يكلفهم الله تعالى ما لا يطيقونه . ألا ترى إلى قوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ؟ [ البقرة : 286 ] . وليس في ما ذكره أبو بكر ما يرفع هذا التأويل لأنه يقال : الأمر إذا اشتد ، وتعسر ، لا يطاق هذا الأمر ، وإن لم يكن ذلك خارجا من الوسع .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } ؟ [ البقرة : 286 ] وتأويله : لا تحملنا أمرا يشتد علينا عمله ، ليس أنهم خافوا أن يحملهم أمرا لا يحتمله وسعهم ، فيكون قوله : { علم أن لن تحصوه } إن كان تأويله : أن لن تطيقوه ، على ذلك ، والله أعلم .

وجائز أن يكون قوله : { ما لا طاقة لنا به } أي لا تحملنا أمرا يهلك طاقتنا : لا أن يحمّلوا أمرا لا يطيقونه ، ألا ترى الإنسان يحتمل القتل ؟ ولكن قتله يهلك طاقته .

وجائز أن يكون قوله : { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أي اعصمنا من الشهوات واللذات لئلا نؤثرها ، فنكون مضيعين بارتكابها قوة الفعل الذي تعبدنا به ، فلا نصل إلى فعله . وهذه ، هي القوة التي لا تزايل{[22511]} الفعل ، بل تطايقه . وأما الفعل الذي هو خارج عن احتمال الوسع والطاقة فذلك هو الذي لا يقع بمثله التكليف .

وجائز أن يكون تأويل قوله تعالى : { علم أن لن تحصوه } أي لن تحصوا حدّ{[22512]} ما أمركم به ؛ لو حدّ{[22513]} عليكم في أمر بتقدير الثلث والنصف ، لم يمكنهم ذلك إلا بعد جهد ، ففرض عليكم قيام الثلث من الليل ، وجعل لكم الإمكان في أن تزيدوا عليه ، فيحيط{[22514]} عملكم بقيام الثلث ، ولو كان على حد واحد لم يمكنكم حفظه{[22515]} إلا بعد شدة وجهد ، وفي ذلك كلفة عسيرة .

ويؤيد هذا تأويل من قال : { علم أن لن تحصوه } أي لن تطيقوه ، وتكون الطاعة عبارة عن التعسير واشتداد الأمر .

ثم في الآية دلالة على إباحة تعليق الحكم بالاستحسان لأنه قد فرض عليهم قيام ثلث الليل ، ولا يمكنهم تدارك الثلث بتقدير الإحاطة . وإنما يمكنهم بالتقدير الذي يغلب على القلب . فثبت أنه قد يجوز أن يكون الحكم معتبرا بما يقع في القلوب ، ويغلب على الظنون ، والاستحسان ليس إلا تعليق الحكم بما يغلب على القلوب .

والذي يدل على أن الحكم يلازم بما ذكرنا أن الله تعالى ألزم الحدّ على القاذف وعلى{[22516]} الزاني ، ولم يبين مبلغ وقوع الضرب فيه ولا ما يضرب به ، فقدر ذلك بما يقع في القلوب أن مثل هذا الضرب يصلح لمثل هذه الجناية ، وكذلك قيم الأشياء والأرؤس والنفقات وتسوية المكائيل والموازين ، يعتبر ذلك كله بغلبة الظنون من غير أن كان لشيء من ذلك أصل تقدر النوازل به وتنتزع منه .

فثبت أنه يجوز أن يحكم بالذي يغلب على الظنون ، وأن المجتهد يرجع إلى وجهين : مرة ينظر[ في ]{[22517]} غيره ، فيتمثل بهذا ، فيسمي ذلك قياسا ، ومرة يحكم فيها بما يغلب على الظنون ، فيسمي ذلك استحسانا .

وفي هذه الآية دلالة أن سؤال من يسأل أبا حنيفة ، رحمه الله ، أن الوتر لو كان له مشابه في الفرض لكان لا يختلف بعدده سؤال غير مستقيم ، لأنه قد فرض على القوم أن يقوموا ثلث الليل . وقد أخبر عز وجل أنهم لا يحصون حدّ ما أمرهم به . وإذا لم يحصوا ، فلا بد أن يقع هناك زيادة أو نقصان . فكذلك الوتر ، وإن كان حدّ عدده غير معروف ، وهو لا يخرجه عن حكم الفرائض ، والله أعلم ، في قوله عز وجل : { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم } هو أن الله تعالى وقت ما فرض عليهم علم أنهم لا يحصونه ، ولكن بين هذا ليعلموا أن الله تعالى إن يكلفهم إقامة العبادة إلى وقت لا يتهيأ لهم إحاطة مبلغ ذلك الوقت إلا بعد جهد ليعرفوا منة الله عليهم إذا أسقط عنهم ذلك التكليف ، وهو كقوله عز وجل : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } [ الأنفال : 66 ] ولكن ذكر هذا ليعلموا أنهم يكلفون القيام للعسرة ، وإن كان بهم ضعف ، لكن إذا خفف عنهم عرفوا ما لله عليهم من عظيم المنة .

وقوله تعالى : { فتاب عليكم } يحتمل أن تكون طائفة منهم امتنعوا عن القيام ، فتكون التوبة راجعة إليهم . ألا ترى إلى قوله تعالى : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وطائفة من الذين معك } ؟ فهذا يبين أنهم جميعا لم يقوموا معه ، وإنما قامت طائفة ، فتكون التوبة راجعة إلى الطائفة التي امتنعت عن القيام .

وجائز أن تكون راجعة إليهم وإلى الذين قاموا معه ، فيكون الذين قاموا معه قصّروا القيام عن الحدّ الذي شرط عليهم ، فافتقروا إلى التوبة أيضا كما افتقر إليها{[22518]} من تخلف عن القيام فتاب الله عليهم جميعا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } فمنهم من ذكر أن قيام الليل صار منسوخا بهذه الآية ، ومنهم من يقول بأن النسخ وقع بقوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } وهي الصلاة المفروضة ، وليس بينهما فرق عندنا . وإنما نسخ بها جميعا .

ووجه النسخ ، هو بالاقتصار أن فرض القيام لو كان باقيا لكان لا يجوز لهم أن يكتفوا من القراءة بما يتيسر عليهم لأنهم إذا قاموا إلى ثلث الليل لزمهم تبليغ القراءة إلى حدّ يتعسر عليهم ، ويشتد .

فإذا أذن بالاقتصار على القدر الذي تيسر ، علم أنه قد سقط عنهم أن يقوموا ثلث الليل .

ثم هو إذا قام صلاة/ 609 – أ/ المغرب والعشاء قد قرأ من القرآن ما تيسر عليه ، فصار قاضيا لما اقتضاه قوله : { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } .

فمن هذا الوجه استدلوا بهذه الآية على نسخ حكم القيام بالليل .

ثم هذه القراءة يقيمها في الصلاة ، فيكون النسخ واقعا بهما .

ثم من الناس من يزعم أن فرض القيام سقط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أمته ، واستدل بقوله : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } [ الإسراء : 79 ] وإن كان الفرض عليه قائما لم يكن التهجد به نافلة .

ومنهم من زعم أنه لم يسقط عنه فرض القيام ، بل دام إلى أن قبض عليه السلام واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كتب عليّ قيام الليل ، ولم يكتب عليكم ) ومعناه : بقي عليّ مكتوبا ، ورفع عنكم ، إذ دللنا أن القيام في الابتداء كان عليه وعليهم جميعا .

وقد قال بعض الناس : إن صلاة الليل ، لم تكن فرضا على أمته بهذا الحديث ، وما ذكرناه حجة عليهم .

ثم الجواب عن التعلق[ بقوله : ]{[22519]}{ فتهجد به نافلة لك } معناه : غنيمة لك ، لا أن يكون القيام منه تطوعا . ووجه صرفه إلى الغنيمة ، هو{[22520]} أن العبادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج مخرج الشكر لله تعالى ، فيصير بها مكتسبا للفضيلة ، وليس يقع ذلك موقع التكفير للسيئات ، لأنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، فلم يكن يحتاج إلى إتيان الحسنات لتكفر عنه السيئات . فثبت أن الفعل منه يقع موقع اكتسابه الفضيلة ، فتدوم له تلك الفضيلة ، ويستوجب بها جزيل الثواب ، وذلك من أعظم الغنائم .

والذي يدل على أن قوله يخرج مخرج الشكر ما روي عن رسول الله ( [ أنه قام ]{[22521]} حتى تورمت قدماه ، فقيل له : يا رسول الله ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال عليه السلام : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ )[ البخاري 1130 ومسلم 2819 و2820 ] .

وأما غيره فإن الحسنات منهم مكفرة لسيئاتهم ومطهرة لزلاتهم بقوله{[22522]} تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات }[ هود : 114 ] فهم بحسناتهم لم يصيروا مكتسبين الفضيلة في مستأنف الأوقات ، فيصيروا فيها مغتنمين ، بل رفعوا زلاتهم ، وطهروا أنفسهم من المآثم ، فلم تصر القربة منهم[ نافلة ]{[22523]} والله أعلم . فلهذا[ ما سمى تهجده نافلة ]{[22524]} لا أن يكون قيامه نفلا .

وقوله تعالى : { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } فمنهم من زعم أن هذه السورة كلها مكية ، ومنهم من زعم[ أن ]{[22525]} أولها مكية ، وآخرها مدنية .

ويحتج هؤلاء بقوله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض } بقوله تعالى : { يقاتلون في سبيل الله } وذلك لأن{[22526]} الجهاد فرض على المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة ، ولم يوجد منهم الضرب في الأرض في حال كونهم بمكة ، وفي هذا إخبار عن جهاد طائفة وعن ضرب بعض في الأرض ، فثبت أن نزول هذه الآيات كان{[22527]} بالمدينة . واحتجوا أيضا بقوله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقالوا{[22528]} : إن الزكاة إنما فرضت عليهم بعد ما هاجروا إلى المدينة ، وفي هذا أمر بإيتاء الزكاة ؛ فثبت أن نزولها كان{[22529]} بالمدينة .

وأما أول السورة فهو{[22530]} في موضع المحاجة على أهل الشرك ، ولم يكن بالمدينة مشرك ، بل[ كان أهلها ]{[22531]} أهل كتاب .

ومن ذكر أنها كلها مكية ، فهو يحمل قوله : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } على الوعد والبشارة ، ليس على الإيجاب والوجوب . ألا ترى إلى قوله عز وجل : { علم أن سيكون منكم مرضى } أخبر{[22532]} أنه سيكون منهم{[22533]} مرضى لا أن كانوا مرضى ذلك الوقت ، فلم يكن في ما ذكر دلالة كونها مدنية .

ثم الآية ، إن كانت على الوعد ، ففيه أنهم كانوا في ضيق من العيش ، وكانوا من القول{[22534]} في خوف ، فيكون فيه بشارة أنه يرفع عنهم الضيق بما يضربون في الأرض ، ويوسع عليهم العيش ، وأنه يفتح لهم{[22535]} الفتوح ، ويكثر أنصارهم حتى يقهروا العدو ، ويقع لهم من ناحيتهم الأمن ، وقد آل الأمر إلى ما بشروا به ؛ ففيه آية رسالته عليه السلام إذ أخبرهم عن علم الغيب وكان الأمر على ما أخبرهم .

وقوله تعالى : { علم أن سيكون منكم مرضى } في موضع الاعتلال ؛ إنه إنما خفف عليهم الأمر من الاعتذار من المرض والضرب في الأرض والمجاهدة في سبيل الله . والتخفيف إذ أوجب العذر ؛ فما لم يلاق العذر حالة الفعل لم يخفف ، فكيف خفف عنهم قبل وقوع الأعذار ؟ ولكن هذه الأعذار ، وإن تخففت هي ، فلا{[22536]} تلاقي الفعل ، بل تتقدمه ، لأن المجاهدة تكون بالنهار لا بالليل ، وكذلك الضرب في الأرض ، وقته النهار لا الليل ، والقيام كان بالليل ، ليس بالنهار ، ثم قد وضع عنهم قيام الليل ، وإن لم يكن العذر ملاقيا القيام .

فعلى ذلك جائز أن يرفع عنهم القيام بالليل ، وإن[ لم ] يأت بعد وقت المجاهدة ، ولا كان الضرب موجودا ، إذ ليس في ذلك كله إلا عدم ملاقاة العذر حالة القيام ، وجه رفع قيام الليل عنهم بالمجاهدة والضرب في الأرض ، وإن كانا يحصلان بالنهار لا بالليل ، لأن{[22537]} المجاهدة بالنهار تضيعهم ، وتوهن قواهم ، فيتعذر عليهم قيام الليل ، وكذلك الضرب في الأرض . فمنّ الله تعالى بأن رفع عنهم قيام الليل ، وإن لم يوجد منهم الاشتغال بالجهاد بالليالي ، والله أعلم .

ثم الضرب في الأرض يكون للتجارة ولغيرها من الوجوه : لطلب العلم وغيره من الأسباب ، فلا يحصل أمر الضرب على التجارة خاصة .

وقوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } قال أبو بكر في قوله : { وآتوا الزكاة } دلالة أن هذه الآية مدنية لأن الزكاة إنما فرضت عليهم بالمدينة . فإن كان الأمر على ما ذكر أن فرضيتها نزلت بالمدينة ، فذلك عندنا مصروف إلى زكاة المواشي خاصة ، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم بمكة سوائم ، لأنهم كانوا يخافون العدو ، فلم يتهيأ لهم إسامة المواشي .

وأما ما رجع من الزكاة إلى غيرها من الأموال فيشبه أن تكون واجبة عليهم في حال كونهم بمكة وبعد مفارقتهم إياها ، ولا يكون في الأمر بإيتاء الزكاة دلالة نزولها بالمدينة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وأقرضوا الله قرضا حسنا } فالقرض في لغة العرب القطع ، يقال : قرض الفأر الجراب أي قطعه ، فسمي القرض قرضا لهذا لأنه يقطع ذلك القدر ، فيجعله لله خالصا ، فسمي إقراضا لهذا .

ويجوز أن يكون أضاف إلى نفسه لئلا يمنّ على الفقير في ما يتصدق عليه ؛ إذ الإقراض حصل في ما بينه وبين ربه ، فيصير الفقير معاونا في تلك القربة ، ولأن المرء في الشاهد ما يفضل عن حاجته يدفعه إلى من[ يثق به ليسترده ]{[22538]} منه عند حاجته إليه ، فكذلك الصدقة أوجبت في المال الذي يفضل عن [ حاجته/ 609 – ب/ فيقرضها ]{[22539]} لله تعالى ، فيجدها مهيأة عندما تمسه الحاجة .

ثم المال الذي يدفعه إلى الفقير على جهة التصدق ، هو مال الله تعالى ، ثم جعل الله ذلك منه إقراضا له ، جل جلاله ، وأضافه إلى نفسه ، فتكون الفائدة في الإضافة إلى نفسه ، هي تفضيل عمله ليرغبه في مثل ذلك الفعل على جهة التكرم منه ، وهو كما سمّى الثواب الذي يتفضل على عباده أجرا بقوله : { من عمل صالحا فلنفسه } [ فصلت : 46 و . . ] ومن عمل لنفسه لم يستوجب الأجر على غيره ، وسمّى الذي يقتل شهيدا بائعا نفسه لله تعالى على تفضيل وترغيب للعباد في مثله لقوله : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم }[ التوبة : 111 ] .

وقوله تعالى : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } معناه : تجدوه خالصا لكم ، وإلا فكل شيء تقدمونه من خير أو شر تجدونه حاضرا في ذلك اليوم ، ولكن الشر يكون عليهم لقوله{[22540]} تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } [ آل عمران : 30 ] وقوله{[22541]} عز وجل : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها }[ الكهف : 49 ] .

وقوله تعالى : { هو خيرا وأعظم أجرا } وفي حق الكلام أن يقول : هو خير لأن{ هو } يرفع ما بعده ، ولكن{ هو } كالفعل ههنا ، وحقه الحذف ، وإذا حذف انتصب الكلام ، لأن معناه/ إن الذي تجدونه عند الله خيرا لكم مما خلّفتم ، فيكون{ خيرا } مفعولا . ثم قوله عز وجل : { هو خيرا وأعظم أجرا } يحتمل أوجها :

أحدها : أنه خير لكم وأعظم أجرا مما خلفتم لورثتكم ، فيكون فيه أن الذي يخلفه لورثته ، له فيه خير .

ولكن ما تقدم ، لا خير له . والذي يدل على أن له في ما يخلفه لورثته خيرا قوله عليه السلام ( إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس )[ البخاري 2742 ] .

والثاني : أن المرء في الشاهد ، قد تسخو نفسه ببذل[ ماله للأجلة ]{[22542]} لما يأمل منهم في{[22543]} المآل الثواب العاجل ، فيكون في قوله : { هو خيرا وأعظم أجرا } ترغيب للعباد في تقديم الأموال لوجه الله تعالى ، لأنه إذا رغبت أنفسهم في بذل الأموال للأجلة طمعا بالمنافع التي تحصل لهم ، كان{[22544]} بذل المال لوجه الله تعالى أعظم في الأجر ؛ فهو أن تقع فيه الرغبة ، ولأن النفس قد تتحمل المكروه في الشاهد لمنافع تأملها في تأتّي الحال . فإذا طمعت بما تبذل لوجه الله تعالى الثواب الجزيل والأجر العظيم خف عليها تحمل المكروه ، وتناله بالبذل .

[ والثالث ]{[22545]} : يجوز أن يكون قوله عز وجل{ وأعظم } بمعنى عظيم ؛ إذ قد يستعمل حرف أفعل في موضع فعيل كما يقال أكبر بمعنى كبير ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { واستغفروا الله } فالاستغفار ، هو طلب المغفرة ؛ وذلك يكون باللسان مرة وبالأفعال ثانيا . فطلب المغفرة من جهة الفعل الذي يستحق عليه العقاب ، ويجيب إلى ما دعي إليه لقوله{[22546]} تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }[ الأنفال : 38 ] فجعل انتهاءهم عن الكفر ودخولهم في الإسلام سبب مغفرتهم ، وقوله{[22547]} عز وجل : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا } [ نوح : 10 ] .

وليس استغفارهم أن يقولوا باللسان : اللهم اغفر لنا ، ولكن معناه : أن انتهوا عما أنتم عليه من الكفر ، وأجيبوا ربكم إلى ما دعاكم إليه ؛ فهذا هو الاستغفار ، وطلب{[22548]} المغفرة يكون على وجهين :

أحدهما : أن تسأل ربك التجاوز عن سيئاتك .

والثاني : أن[ تسأله توفيقه ]{[22549]} للسبب الذي إذا [ جئت به ، استوجبت المغفرة ]{[22550]} .

وعلى هذا التأويل يخرج استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه ، وهو أنه طلب من ربه أن يوفقه لما فيه نجاته ، وهو الإسلام ، لا أن يغفر له مع دوامه على الكفر . ألا ترى أنه امتنع عن الاستغفار له حين{[22551]} تقررت عنده عداوته لله تعالى ، وعلم أنه لم يوفق للسبب الذي يستوجب به المغفرة بقوله{[22552]} تعالى : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه }[ التوبة : 114 ] .

[ فثبت أنه لم يطلب منه ]{[22553]} المغفرة مع دوامه على الكفر ، ولكن للوجه الذي ذكرنا ، والله أعلم بالصواب{[22554]} .


[22492]:انظر معجم القراءات القرآنية ح 7/255.
[22493]:من م، ساقطة من الأصل.
[22494]:في الأصل و م: الاثنين.
[22495]:انظر معجم القراءات القرآنية ح 3/340.
[22496]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
[22497]:في الأصل: قال.
[22498]:انظر معجم القراءات القرآنية ح5/155.
[22499]:في الأصل و م: وهو.
[22500]:من م، ساقطة من الأصل.
[22501]:الواو ساقطة من الأصل و م.
[22502]:ساقطة من الأصل و م.
[22503]:من م، في الأصل: يقتضي.
[22504]:ساقطة من الأصل و م.
[22505]:من م، ساقطة من الأصل.
[22506]:من م، في الأصل: التورية.
[22507]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
[22508]:أدرج بعدها في الأصل و م: غير.
[22509]:في الأصل و م: ظاهر.
[22510]:من م، في الأصل: ولأن.
[22511]:من م، في الأصل: يزال.
[22512]:في الأصل و م: أخذ.
[22513]:في الأصل و م: أخذ.
[22514]:في الأصل و م: فيحبط.
[22515]:في الأصل و م: حفظ.
[22516]:الواو ساقطة من الأصل و م.
[22517]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة م الأصل و م.
[22518]:في الأصل و م: إليهم.
[22519]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
[22520]:في الأصل و م: وهو.
[22521]:ساقطة من الأصل و م.
[22522]:في الأصل و م: قال الله.
[22523]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
[22524]:من م، ساقطة من الأصل.
[22525]:من م، ساقطة من الأصل.
[22526]:في الأصل و م: أن.
[22527]:في الأصل و م: كانت.
[22528]:الواو ساقطة من الأصل و م.
[22529]:في الأصل و م: كانت.
[22530]:في الأصل و م: فهي.
[22531]:في الأصل و م: فأخبر.
[22532]:في الأصل و م: فأخبر.
[22533]:في الأصل و م: منكم.
[22534]:في م: القوم.
[22535]:من م، في الأصل: عليهم.
[22536]:الفاء ساقطة من الأصل و م.
[22537]:في الأصل و م: هو أن.
[22538]:في الأصل: شيء ليسترد، في م: يثق ليسترد.
[22539]:في الأصل: حاجات، فيقرض، في م: حاجات فيقرضها.
[22540]:في الأصل و م: قال الله.
[22541]:في الأصل و م: وقال الله.
[22542]:في الأصل: حاجات، فيقرض، في م: حاجات فيقرضها.
[22543]:في الأصل و م: من.
[22544]:في الأصل و م: فكان.
[22545]:في الأصل و م:و.
[22546]:في الأصل و م: قال الله.
[22547]:في الأصل و م: وقال الله.
[22548]:في الأصل و م: وهو طلب.
[22549]:في الأصل و م: تسأل حتى يوفقه.
[22550]:في الأصل و م: جاء به المغفرة استوجب.
[22551]:في الأصل و م: حيث.
[22552]:في الأصل و م: قال الله.
[22553]:من م، ساقطة من الأصل.
[22554]:ساقطة من م.