قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل } .
العامة : على ضم «اللام » من «ثلثي » وهو الأصل ، كالربع والسدس .
وقرأ هشام{[58399]} : بإسكانها تخفيفاً .
قوله : { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } ، قرأ الكوفيون{[58400]} وابن كثير : بنصبهما ، والباقون ، بجرهما .
وفي الجر إشكال يأتي إن شاء الله تعالى .
فالنصبُ : نسق على «أدْنَى » ؛ لأنه بمعنى وقت أدنى ، أي : أقرب ، استعير الدنو لقرب المسافة في الزمان ، وهذا مطابق لما في أول السورة من التقسيم ، وذلك أنه إذا قام أدنى من ثلثي الليل ، فقد صدق عليه أنه قام الليل إلا قليلاً ، لأن الزمان لم يقم فيه ، فيكون الثلث ، وشيئاً من الثلثين ، فيصدق عليه قوله : «إلاَّ قَلِيلاً » .
وأما قوله : «ونصفهُ » فهو مطابق لقوله : «ولا نِصْفهُ » ، وأما قوله : «وثُلثهُ » فإنَّ قوله : { أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } قد ينتهي النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلثي الليل ، وأما قوله : { أَو زِدْ عَلَيْهِ } فإنَّه إذا زاد على النصف قليلاً كان الوقت أقل من الثلثين . فيكون قد طابق أدنى من ثلثي الليل ، ويكون قوله تعالى : { نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } شرطاً لمبهم ما دل عليه قوله : { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً } ، وعلى قراءة النصب : فسر الحسن «تحصُوهُ » بمعنى تطيقوه ، وأما قراءة الجر : فمعناها أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقدار الزمان مع عذر النوم ، وقد أوضح هذا كله الزمخشري ، فقال : وقرئ : «نصفه وثلثه » بالنصب ، على أنك تقوم أقل من الثلثين ، وتقوم النصف والثلث ، وهو مطابق لما مر فيه أول السورة في التخيير بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص وهو الثلث ، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين .
وقرئ بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث ، وهو مطابق للتخيير بين النصف ، وهو أدنى من الثلثين ، والثلث ، وهو أدنى من النصف ، والربع وهو أدنى من الثلث ، وهو الوجه الأخير ، انتهى .
يعني بالوجه الأخير ما قدمه أول السورة من التأويلات . وقال أبو عبد الله الفارسي : وفي قراءة النصب إشكال إلا أن يقدر نصفه تارة ، وثلثه تارة ، وأقل من النصف ، والثلث تارة ، فيصح المعنى .
فصل في بيان أن هذه الآية تفسير للقيام في أول السورة
قال القرطبي{[58401]} : هذه الآية تفسير لقوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } أو زد عليه - كما تقدم - وهي الناسخة لفريضة قيام الليل كما تقدم ، ومعنى قوله تعالى : «تَقُومُ » أي : تصلي ، و «أدْنَى » ، أي : أقل .
وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام : «ثلثي » بإسكان اللام ، و «نصفه وثلثه » بالخفض : قراءة العامة - كما تقدم - ، عطفاً على «ثلثي » والمعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ، ومن نصفه ، وثلثه ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } فكيف تقيمون نصفه أو ثلثيه ، وهو لا تحصونه ؟ ! وأما قراءة النصف عطفاً على «أدنى » ، والتقدير : تقوم أدنى من ثلثيه وتقوم نصفه وثلثه . قال الفراءُ : وهو أشبه بالصوابِ ؛ لأنه قال : أقلّ من الثلثين ، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة .
قال القشيريُّ : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف لخفة القيام عليهم بذلك القدر ، وكانوا يزيدون ، وفي الزيادة إصابة المقصود ، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه ، وينقصون منه ، ويحتمل أنهم أمروا بالقيام نصف الليل ، ورخص لهم في الزيادة والنقصان ، وكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين ، وفي النصف إلى قريب من الثلث ، ويحتمل أنَّهُم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ، والزيادة إلى الثلثين ، وكان فيهم من يفي بذلك ، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم ، وقيل : إنَّما فرض عليهم الربع ، وكانوا ينقصون من الربع .
قال القرطبيُّ{[58402]} : «وهَذَا تَحكُّمٌ » .
قوله : { وَطَائِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ } . رفع بالعطف على الضمير في «تقُومُ » ، وجوز ذلك الفصل بالظرف ، وما عطف عليه .
قوله : { والله يُقَدِّرُ الليل } .
قال الزمخشريُّ : «تقديم اسم الله - عز وجل - مبتدأ مبنياً عليه " يقدر " هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير » .
ونازعه أبو حيَّان في ذلك ، وقال{[58403]} : «لو قيل : زيدٌ يحفظ القرآن ، لم يدل ذلك على اختصاصه » .
وقيل : الاختصاص في الآية مفهوم من السياق ، والمعنى : ليعلم مقادير الليل ، والنهار على حقائقها ، وأنتم تعلمون بالتحري ، والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ .
قوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، «أنْ لَنْ » و «أنْ سَيكُون » كلاهما مخففة من الثقيلة والفاصل للنفي ، وحرف التنفيس .
والمعنى : علم أن لن تطيقُوا معرفة حقائق ذلك ، والقيام به ، أي : أن الله هو الذي يعلم مقادير الليل والنهار على حقيقته .
وقيل : المعنى : لن تطيقوا قيام الليل ، والأصح الأول ، لأن قيام الليل ما فرض كله قط .
قال مقاتل وغيره : لما نزل { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل ، من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، وانتفخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فخفف الله عليهم ، وقال : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، أي : علم أنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضاً ، وإن نقصتم شق معرفة ذلك عليكم{[58404]} .
قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، أي : فعاد عليكم بالعفو ، وهذا يدل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به .
وقيل : «فتَابَ علَيْكمْ » من فرض القيام أو عن عجزكم ، وأصل التوبة الرجوع - كما تقدم - فالمعنى : رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى إيسار ، وإنما أمروا بحفظ الأوقات بالتحري ، فخفف عنهم ذلك التحري .
وقيل : معنى قوله : { والله يُقَدِّرُ الليل والنهار } ، أي : يخلقهما مقدرين ، كقوله تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] .
قال ابنُ العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف . قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } .
قيل : المراد نفس القراءةِ ، أي : فاقرأوا فيما تصلون به بالليل ما خف عليكم .
قال السديُّ : مائة آية{[58405]} .
وقال الحسنُ : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن{[58406]} .
وقال كعبٌ : من قرأ في ليلةٍ مائة آيةٍ كتب من القانتين{[58407]} .
وقال سعيد بن جبير : خمسون آية{[58408]} .
قال القرطبي{[58409]} : قول كعب أصح ، «لقوله - عليه الصلاة والسلام- : " مَنْ قَامَ بِعشْرِ آيَاتٍ لمْ يُكتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ ، ومَنْ قَامَ بِمائَةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتيْنَ ، ومَنْ قَامَ بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المُقنطرينَ " {[58410]} . خرجه أبو داود الطيالسي .
وروى أنس بن مالك قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَنْ قَرَأ خَمْسينَ آيةً فِي يَومٍ أوْ فِي ليْلةٍ لَمْ يُكتَبْ مَنَ الغَافليْنَ ، ومَنْ قَرَأ مِائةَ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتينَ ، ومَنْ قَرَأ مائَتَي آيةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ القرآنُ إلى يَوْمِ القيامة ، ومن قرأ خَمْسمائةِ آيةٍ كُتِبَ لَهُ قِنطارٌ مِنَ الأجْرِ »{[58411]} .
فقوله : «مَنَ المقُنَطرِيْنَ » ، أي : أعطي قنطاراً من الأجر .
وجاء في الحديث : «أن القنطار : ألف ومائتا أوقية ، والأوقية خير مما بين السماء والأرض » .
وقال أبو عبيدة : القناطيرُ ، واحدها قنطار ، ولا تجد العرب تعرف وزنه ، ولا واحد للقنطار من لفظه .
وقال ثعلب : المعمول عليه عند العربِ أنه أربعة آلافِ دينارٍ ، فإذا قالوا : قناطير مقنطرة فهي اثنا عشر ألف دينار .
وقيل : إن القنطار : ملء جلد ثور ذهباً .
وقيل : هي جملة كثيرة مجهولة من المال ، نقله ابن الأثير .
وقيل : المعنى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } ، أي : فصلوا ما تيسر عليكم ، والصلاة تسمى قرآناً ، قال تعالى : { وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] ، أي : صلاة الفجر .
قال ابن العربي : «والأول أصح ، لأنه أخبر عن الصلاة وإليها يرجع القول » .
قال القرطبيُّ{[58412]} : «الأول أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الثاني مجاز لأنه من تسمية الشيءِ ببعض ما هو من أعماله » .
قال بعض العلماءِ : قوله تعالى { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } نسخ قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف ، والزيادة عليه ، ثم يحتمل قول الله - عز وجل - { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } معنيين :
أحدهما : أن يكون فرضاً ثانياً لأنه أزيل به فرض غيره .
والآخر : أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره كما أزيل به غيره ، وذلك بقول الله - تعالى - : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، فاحتمل قوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } أي : تتهجد بغير الذي فرض عليك مما تيسر منه .
قال الشافعيُّ : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس .
فصل في أن النسخ هنا خاص بالأمة
قال القشيريُّ : والمشهورُ أنَّ نسخ قيامِ الليل كان في حق الأمةِ ، وبقيت الفريضةُ في حق النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إنما النسخ : التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب كقوله تعالى : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي }[ البقرة : 196 ] ، فالهدي لا بد منه ، كذلك لا بد من الصلاة في الليل ولكن فوض تقديره إلى اختيار المصلي ، وعلى هذا فقال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق ، وهو مذهب الحسنِ .
قال الشافعيُّ : بل نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلاً ، ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه ، وهو قيامه ، ومقداره مفوض إلى خيرته ، وإذا ثبت أن القيام ليس فرضاً ، فقوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ، معناه : اقرأوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم .
وقال قوم : إنَّ النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه ، وقوله : { نَافِلَةً لَكَ } محمول على حقيقة النفل ، ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل لم ينسخ ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل }[ الإسراء : 78 ] الآية ، وقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ }[ الروم : 17 ] الآية ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع .
وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة كما أن فرضية الصلاة ، وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { يا أيها المزمل قُمِ الليل } فهي عامة له ولغيره .
وقد قيل : إن فريضة قيام الليل امتدت إلى ما بعد الهجرةِ ، ونسخت بالمدينة لقوله تعالى : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } ، وإنما فرض القتال بالمدينة ، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ، فقيام الليل نسخ بقوله : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] .
وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نسخ قول الله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } ، وجوب قيام الليل{[58413]} .
قوله : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } بيَّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل ، فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليه قيام الليل ، ويشق عليه أن تفوته الصلاة ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، والمجاهد كذلك ، فخفَّف الله عن الكل لأجل هؤلاء .
وقال ابن الخطيب{[58414]} : لمَّا علم الله تعالى أعذار هؤلاء ، يعني المريض ، والمسافر ، والمجاهد ، فلو لم يناموا بالليل لتوالت عليهم أسباب المشقة ، وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } فلا جرم لم ينسخ وجوب التهجد في حقه عليه الصلاة والسلام .
و «أن » في قوله : «أنْ سيَكونُ » مخففة من الثقيلة ، أي : علم أنه سيكون .
قوله : «وآخَرُونَ » عطف على «مَرْضَى » ، أي : علم أن سيوجد منكم قوم مرضى ، وقوم آخرون مسافرون ، ف «يَضْربُونَ » نعت ل «آخَرُونَ » وكذلك «يَبْتَغُونَ » ، ويجوز أن يكون «يبتغون » حالاً من فاعل «يَضْرِبُونَ » ، و «آخَرُونَ » عطف على «آخَرُونَ » و «يُقَاتلُونَ » صفته .
فصل في بيان أن الكسب الحلال كالجهاد
سوى الله تعالى في هذه الآية{[58415]} بين درجة المجاهدين ، والملتمسين للمال الحلال للنفقة على نفسه ، وعياله ، والإحسان ، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنّ جمعه من الجهاد في سبيل الله .
قال - عليه الصلاة والسلام - : " مَا مِنْ جَالبٍ يَجلبُ طَعاماً مِنْ بَلدٍ إلى بَلدٍ ، فيَبيعُهُ بِسْعرٍ يَومِهِ إلاَّ كانتْ مَنزِلتُهُ عنْدَ اللَّهِ تعالى مَنْزلةَ الشُّهداءِ " ثُمَّ قَرَأ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } »{[58416]} .
وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء ، وقرأ : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله }{[58417]} .
وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من الموت بين شعبتي رحْلي ، أبتغي من فضل الله ، ضارباً في الأرض{[58418]} .
وقال طاووس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله{[58419]} .
قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ، أي : صلُّوا ما أمكن فأوجب الله تعالى من صلاة الليل ، ما تيسَّر ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم .
وقال عبد الله بن عمرو : «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَا عَبْدَ اللَّه ، لا تكُنْ مِثْلَ فُلانِ كَانَ يقُومُ اللَّيْلَ ، فتركَ قِيامَ اللَّيْلِ " ، ولو كان فرضاً ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه ، بل كان يذمه غاية الذم{[58420]} .
فصل في القدر الذي يقرأ به في صلاته
إذا ثبت أنَّ قيام الليل ليس بفرض ، وأن قوله { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } ، { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة ، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة .
فقال مالك والشافعيُّ : فاتحة الكتاب لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها ، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة من أي القرآن كانت ، وعنه ثلاث آياتٍ لأنها أقل سورة ، وقيل المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة .
قال الماورديُّ : فعلى هذا القول يكون مطلق الأمر محمولاً على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه وما فيه من دلائل التوحيد ، وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ، ودلائل التوحيد أن يحفظه ؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة والأكثرون على أنه للاستحباب ، لأنه لو وجب علينا قراءته لوجب حفظه . وفي قدر الواجب أقوال :
الأول : قال الضحاكُ : جميع القرآن ، لأن الله تعالى يسره على عباده{[58421]} .
الثاني : قال جويبر : ثلث القرآن{[58422]} .
الثالث : قال السديُّ : مائتا آية{[58423]} .
الرابع : قال ابن عباسٍ : مائة آية{[58424]} .
الخامس : قال أبو خالد الكناني : ثلاث آياتٍ كأقصر سورة{[58425]} .
قوله { وَأَقِيمُواْ الصلاة } ، يعني الخمس المفروضة ، وهي الخمس لوقتها ، { وَآتُواْ الزكاة } الواجبة في أموالكم .
قاله عكرمة وقتادة ، وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر ، لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك{[58426]} ، وقيل : صدقة التطوع .
وقال ابن عباسٍ : طاعة الله الإخلاص{[58427]} .
قوله : { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } . القرض الحسن ما أريد به وجه الله تعالى خالصاً من المال الطيب وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن ، النفقة على الأهل{[58428]} ، وقيل : صلةُ الرَّحمِ ، وقرى الضيف ، وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله{[58429]} .
قوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } تقدم بيانه في سورة «البقرة » .
قوله : { هُوَ خَيْراً } ، العامة على نصب الخير مفعولاً ثانياً ، و «هُوَ » إما تأكيد للمفعول الأول ، أو فصل .
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون بدلاً ، وهو غلط ، لأنه كان يلزم أن يطابق ما قبله في الإعراب فيقال : إياه .
وقرأ أبو السمال{[58430]} وابن السميقع : «خير » على أن يكون «هو » مبتدأ ، و «خير » خبره ، والجملة مفعول ثان ل «تَجِدُوه » .
قال أبو زيد : هي لغة تميم ، يرفعون ما بعد الفصل .
4943 - تَحِنُّ إلى لَيْلَى وأنْتَ تَرَكْتَها*** وكُنْتَ عَليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ{[58431]}
والقَوَافِي مرفوعةٌ ، ويروى : «أقدرا » بالنصب .
[ وقال الزمخشريُّ : وهو فصل ]{[58432]} ، وجاز ، وإن لم يقع بين معرفتين ، لأن «أفعل من » أشبه في امتناعه من حرف التعريف ، المعرفة .
قال شهاب الدين{[58433]} : «هذا هو المشهورُ ، وبعضهم يجوزه في غير أفعل من النكرات » .
وقال القرطبي{[58434]} : «ونصب " خيراً ، وأعظم " على المفعول الثاني : ل " تَجِدُوهُ " و " هُوَ " فصل عند البصريين ، وعماد عند الكوفيين ، لا محلَّ له من الإعراب ، و " أجْراً " تمييز » .
المعنى : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً } من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت . قاله ابن عباس{[58435]} .
وقال الزجاجُ : { خير لكم من متاع الدنيا } .
قوله : { وَأَعْظَمَ أَجْراً } ، قال أبو هريرة : يعني الجنَّة{[58436]} ، ويحتمل أن يكون «أعظم أجْراً » لإعطائه بالحسنة عشراً { واستغفروا الله } أي سلوه المغفرة لذنوبكم { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما كان على التوبة رحيم لكم بعدها ، قاله سعيد بن جبير{[58437]} وقيل : غفور لمن لم يصرّ على الذنوب .
وقال مقاتل : غفور لجميع الذنوب لأن قوله «غَفُورٌ » يتناول التائب والمصر ، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده ، والاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لدخل .
وأيضاً : غفران التائب واجب عند الخصم فلا يحصل المدح بأداء الواجبِ ، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ سُوْرَةَ يا أيُّهَا المُزَّمِّل رُفِعَ عنهُ العُسْرُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ »{[1]} ، والله أعلم .