{ إنّ ربك } أي : المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك { يعلم أنك تقوم } أي : في الصلاة كما أمرت به أوّل السورة { أدنى } أي : زماناً أقل والأدنى مشترك بين الأقرب والأدون الأنزل رتبة ؛ لأنّ كلاً منهما يلزم عنه قلة المسافة . { من ثلثي الليل } وقرأ { ونصفه وثلثه } ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصب الفاء بعد الصاد ونصب المثلثة بعد اللام ورفع الهاء فيهما عطف على أدنى والباقون بكسر الفاء والمثلثة وكسر الهاء فيهما عطف على ضمير تقوم وقيامه كذلك مطابق لما وقع التخيير فيه أوّل السورة من قيام النصف بتمامه ، أو الناقص منه وهو الثلث ، أو الزائد عليه وهو الثلثان ، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع .
وقوله تعالى : { وطائفة من الذين معك } عطف على ضمير تقوم ، وجاز من غير تأكيد للفصل وقيام طائفة من أصحابه كذلك للتأسي به ، ومنهم من كان لا يدري كم يصلي من الليل وكم بقي منه ، فكان يقوم الليل كله احتياطاً فقاموا حتى انتفخت أقدامهم سنة وأكثر ، فخفف عنهم بقوله تعالى : { والله } أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { يقدّر } أي : تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير { الليل والنهار } أي : هو العالم بمقادير الليل والنهار ، فيعلم القدر الذي تقومون من الليل والذي تنامون منه .
{ علم أن } مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : أنه { لن تحصوه } أي : الليل لتقوموا فيما يجب القيام فيه إلا بقيام جميعه ، وذلك يشق عليكم { فتاب عليكم } أي : رجع بكم إلى التخفيف بالترخص لكم في ترك القيام المقدّر أوّل السورة .
وقوله تعالى : { فاقرؤوا ما تيسر } أي : سهل { من القرآن } فيه قولان :
أحدهما أن المراد بهذه القراءة القراءة في الصلاة ، وذلك أنّ القراءة أحد أجزاء الصلاة فأطلق اسم الجزء على الكل ، والمعنى : فصلوا ما تيسر عليكم ، قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء . قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أوّل ركعة بالحمد وأوّل آية من البقرة ثم ركع ، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ثم ركع ، فلما انصرف أقبل علينا ، فقال : إنّ الله تعالى يقول : { فاقرؤوا ما تيسر منه } .
قال القشيري : والمشهور أنّ نسخ قيام الليل كان في حق الأمة ، وبقيت الفريضة في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : بل نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلاً ، وإذا ثبت أنّ القيام ليس فرضاً فقوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } معناه : اقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم .
والقول الثاني : أنّ المراد بقوله تعالى : { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } دراسته وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان سواء كان في صلاة أم غيرها ، قال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين . وقال سعيد : خمسين آية . قال القرطبي : قول كعب أصح لقوله صلى الله عليه وسلم «من قام بعشر آيات من القرآن لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين » خرجه أبو داود والطيالسي . وروى أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر » فقوله من المقنطرين أي : أعطي قنطاراً من الأجر . وجاء في الحديث «أنه ألف ومائتا أوقية ، والأوقية خير مما بين السماء والأرض » .
وقال أبو عبيدة : القناطير واحدها قنطار ، ولا تجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه . وقال ثعلب : المعوّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار ، فإذا قالوا : قناطير مقنطرة ، فهي اثنا عشر ألف دينار . وقيل : إنّ القنطار ملء جلد ثور ذهباً . وقيل : ثمانون ألفاً . وقيل : هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير . قال القرطبي : والقول الثاني أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ والقول الأوّل مجاز ؛ لأنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله ، وإذا كان ذلك على قيام لا في قدر القراءة فلا دليل فيه على أنّ الفاتحة لا تتعين في الصلاة ، بل هي متعينة في كل ركعة لخبر الصحيحين : «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب » ولخبر «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب » رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما ، ولفعله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم مع خبر البخاري «صلوا كما رأيتموني أصلي » ويحمل قوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر منه } مع خبر «ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن » على الفاتحة أو على العاجز عنها جمعاً بين الأدلة .
ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أوّل السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ ، فقال تعالى : { علم أن } مخففة من الثقيلة أي : أنه { سيكون } أي : بتقدير لا بدّ منه { منكم مرضى } جمع مريض وهذه السورة من أوّل ما نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ففي ذلك إشارة بأنّ أهل الإسلام يكثرون جدًّا { وآخرون } غير المرضى { يضربون } أي : يوقعون الضرب { في الأرض } أي : يسافرون لأنّ الماشي يجد ويضرب برجله في الأرض { يبتغون } أي : يطلبون طلباً شديداً { من فضل الله } أي : بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده بالتجارة وغيرها { وآخرون } أي : منكم أيها المسلمون { يقاتلون } أي : يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله تعالى ، ولذلك بينه بقوله تعالى { في سبيل الله } أي : الملك الأعظم ، وكل من الفرق الثلاث يشق عليهم ما ذكر في قيام الليل ، وسوّى سبحانه في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين للمال الحلال لنفقته على نفسه وعياله والإحسان فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله ، قال صلى الله عليه وسلم «ما من جالب يجلب طعاماً من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } .
وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء وقرأ { وآخرون } الآية . وقال ابن عمر : ما خلق الله تعالى موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليّ من الموت بين شعبتي رجل ابتغى من فضل الله ضارباً في الأرض ، وقال طاووس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ، وأعاد قوله تعالى : { فاقرؤوا ما تيسر منه } أي : من القرآن للتأكيد .
{ وأقيموا الصلاة } أي : المكتوبة وهي خمس بجميع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها وأبعاضها وهيئاتها { وآتوا الزكاة } أي : زكاة أموالكم . وقال عكرمة وقتادة : صدقة الفطر لأنّ زكاة الأموال وجبت بعد ذلك . وقيل : صدقة التطوع . وقيل : كل فعل خير وقال ابن عباس : طاعة الله تعالى والإخلاص .
{ وأقرضوا الله } أي : الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها الغنى المطلق من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم { قرضاً حسناً } من نوافل الخيرات كلها برغبة تامّة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه . وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن النفقة على الأهل . وقيل : صلة الرحم وقرى الضيف . وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله .
{ وما تقدّموا لأنفسكم } أي : خاصة سلفاً لأجل ما بعد الموت حيث لا تقدرون على الأعمال { من خير } أي خير كان من عبادات البدن والمال { تجدوه } أي : محفوظاً لكم { عند الله } أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { هو } أي : لا غيره { خيراً } أي : لكم وجاز ضمير الفصل بين غير معرفتين ؛ لأن أفعل منه كالمعرفة ولذلك يمتنع دخول أداة التعريف عليها . والمعنى : هو خير من الذي تدخرونه إلى الوصية عند الموت ، قاله ابن عباس . وقال الزجاج : خيراً لكم من متاع الدنيا . وروى البغوي بسنده عن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟ قالوا : يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وراثه .
قال : اعلموا ما تقولون قالوا : ما نعلم إلا ذاك يا رسول الله . قال : إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر » .
{ وأعظم أجراً } قال أبو هريرة : يعني الجنة ويحتمل أن يكون أعظم أجراً لإعطائه بالجنة أجراً .
ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولاسيما إذا كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله تعالى حق قدره فلا يزال مقصراً فلا يسعه إلا العفو ، فقال عز من قائل : { واستغفروا الله } أي : اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته ، فكيف بأداء حق خدمته لتقصيركم عيناً وأثراً بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه .
{ إنّ الله } أي : الملك الأعظم { غفور } أي : بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا يكون عنها عقاب ولا عتاب { رحيم } أي : بالغ الإكرام بعد الستر إفضالاً وإحساناً وتشريفاً وامتناناً .