{ 111 - 120 } { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا }
إلى آخر الآيات{[282]} أي : واذكر نعمتي عليك إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا . فأوحيت إلى الحواريين أي : ألهمتهم ، وأوزعت قلوبهم الإيمان بي وبرسولي ، أو أوحيت إليهم على لسانك ، أي : أمرتهم بالوحي الذي جاءك من عند الله ، فأجابوا لذلك وانقادوا ، وقالوا : آمنا بالله ، واشهد بأننا مسلمون ، فجمعوا بين الإسلام الظاهر ، والانقياد بالأعمال الصالحة ، والإيمان الباطن المخرج لصاحبه من النفاق ومن ضعف الإيمان .
والحواريون هم : الأنصار ، كما قال تعالى كما قال عيسى ابن مريم{[283]} للحواريين : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ }
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله الحواريون لعيسى ، وما طلبوه منه ، مما يدل على إكرام الله - تعالى - لنبيه عيسى فقال :
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ . . . }
قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } هذا أيضاً من الامتنان على عيسى ، بأن جعل اله له أصحاباً وأنصاراً - وهم الحواريون - والمراد بهذا الوحي الإِلهام كما في قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } وكما في قوله { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } وقال بعض السلف في هذه الآية { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } أي : ألهموا ذلك فامتثلوا ما الهموا .
فأنت ترى أن الإِمام ابن كثير يرى أن المراد بالوحي هنا الإِلهام . وعلى ذلك كثير من المفسرين ، ومنهم من يرى أن المراد بقوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } أي : مرتهم في الإِنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي .
قال الآلوسي معززاً هذا الرأي : وقد جاء استعمال الوحي بمعنى الأمر في كلام العرب ، كما قال الزجاج وأنشد :
الحمد لله الذي استقلت . . . بإذنه السماء وأطمأنت
أوحى لها القرار فاستقرت . . . أي : أمرها أن تقر فامتثلت .
والحواريون جمع حواري . وهم أنصار عيسى الذين لازموه وآمنوا به وصدقوه . وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق .
يقال : فلان حواري فلان . أي : خاصته من أصحابه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الزبير بن العوام : " لكل نبي حواري وحواري الزبير " .
وأصل مادة " حور " الدلالة على شدةء الصفاء ونصوع البياض ، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق : الحواري وقالوا في النساء البيض : الحواريات والحوريات .
وقد سمى الله - تعالى - أنصار عيسى بالحواريين ، لأنهم أخلصوا لله نياتهم ، وطهورا نفوسهم من النفاق والخداع فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشيء الأبيض الخالص البياض .
قال الراغب : والحواريون أنصار عيسى - عليه السلام - قيل كانوا صيادين وقال بعض العلماء إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم .
والمعنى : اذكر نعمتي عليك - يا عيسى - حين { أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } بطريق الإِلهام أو بطريق الأمر على لسانك ، وقلت لهم : { أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } أي : آمنوا وصدقوا بأني أنا الواحد الأحد المستحق للعبادة والخضوع وآمنوا برسولي عيسى بأنه مرسل من جهتي لهدايتكم وسعادتكم .
وفي ذكر كلمة { برسولي } إشارة إلى مقامه من الله - عز وجل - وانفصال شخصه عن ذات الله - سبحانه - وأن عيسى ما هو إلا رسول من رب العالمين وأن من زعموا أنه غير ذلك جاهلون وضالون .
وقوله : { قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } حكاية لما نطق به الحواريون من إيمان وطاعة .
أي : أن الحورايين عندما دعو إلى الدين الحق { قالوا آمَنَّا } بأن الله هو الواحد الأحد المستحق للعبادة وأنه لا والد له ولا ولد . ثم أكدوا إيمانهم هذا ، بأن قالوا { واشهد } علينا يا آلهنا واشهد لنا يا عيسى يوم القيامة { بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لكل ما جئتنا به وما تدعونا إليه .
وقدموا ذكر الإِيمان لأنه صفة القلب ، وأخروا ذكر الإِسلام لأنه عبارة عن الانقياد الظاهر فكأنهم قالوا : لقد استقر الإيمان في قلوبنا استقراراً مكيناً ، كان من ثماره أن انقادت ظواهرنا لكل ما يأمرنا الله به على لسانك يا عيسى .
قال الفخر الرازي ما ملخصه : فإن قيل : إنه - تعالى - قال في أول الآية { اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ } ثم إن جميع ما ذكره - تعالى - من النعم مختص بعيسى ، وليس لأمه تعلق بشيء منها . قلنا : كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم ولذلك قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } فجعلهما معاً آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر .
وإنما ذكر - سبحانه قوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ } في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإِنسان مقبول القول عند الناس محبوباً في قلوبهم ، من أعظم نعم الله على الإِنسان .
وقد عدد عليه من النعم سبعاً : { إِذْ أَيَّدتُّكَ } { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ } { وَإِذْ تَخْلُقُ } { وَإِذْ َتُبْرِىءُ } { وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى } { وَإِذْ كَفَفْتُ } { وَإِذْ أَوْحَيْتُ }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
واذكر أيضا يا عيسى إذ ألقيت إلى الحواريين، وهم وزراء عيسى على دينه...
وقد اختلف ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله:"وَإذْ أوْحَيْتُ" وإن كانت متفقة المعاني؛
فقال بعضهم: عن السديّ: "وَإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوَارِيّينَ "يقول قذفت في قلوبهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمتهم.
فتأويل الكلام إذن: وإذ ألقيت إلى الحواريين أن صدّقوا بي وبرسولي عيسى، فقالوا: "آمّنا": أي صدّقنا بما أمرتنا أن نؤمن يا ربنا. "واشْهَدْ" علينا "بأنّنا مُسْلِمُونَ" يقول: واشهد علينا بأننا خاضعون لك بالذلة سامعون، مطيعون لأمرك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين) والحواريون قيل: هم خواصه، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم حواريوه...وقوله تعالى: (قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) يحتمل وجهين؛ يحتمل قالوا لعيسى: واشهد أنت عند ربك (بأننا مسلمون) ويحتمل أن سألوا ربهم أن يكتبهم مع الشاهدين كقوله تعالى: (آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) [الآية: 83].
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
..وإنما خصَّهم بالوحي إلهاماً وإكراماً لانبساط ضياء عيسى عليهم، وفي الأثر:"هُمُ القومُ لا يَشْقَى بهم جليسُهم".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} أمرتهم على ألسنة الرسل {مُّسْلِمُونَ} مخلصون، من أسلم وجهه لله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {أوحيت} في هذا الموضع إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر..وبالجملة فهو إلقاء معنى في خفاء أوصله تعالى إلى نفوسهم كيف شاء...
وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله على الإنسان. وذكر تعالى أنه لما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم، آمنوا وأسلموا وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام، لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر، يعني آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم.
فإن قيل: إنه تعالى قال في أول الآية {اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه بشيء منها تعلق.
قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل الضمن والتبع للأم. ولذلك قال تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
..وقيل:"أوحيت" هنا بمعنى أمرتهم وقيل: بينت لهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بتأييده بالأنصار الذين أحيى أرواحهم بالإيمان وأجسادهم باختراع المأكل الذي من شأنه في العادة حفظ الروح، وذلك في قصة المائدة وغيرها فقال: {وإذ أوحيت} أي بإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً {إلى الحواريين} أي الأنصار {أن آمنوا بي وبرسولي} أي الذي أمرته بالإبلاغ يعني إبلاغ الناس ما آمرهم به، ثم استأنف مبيناً لسرعة إجابتهم لجعله محبباً إليهم مطاعاً فيهم بقوله: {قالوا آمنا}.
ولما كان الإيمان باطناً فلا بد في إثباته من دليل ظاهر، وكان في سياق عدّ النعم والطواعية لوحي الملك الأعظم دلوا عليه بتمام الانقياد، ناسب المقام زيادة التأكيد بإثبات النون الثالثة في قولهم: {واشهد بأننا} بخلاف آل عمران {مسلمون} أي منقادون أتم انقياد، فلا اختيار لنا إلا ما تأمرنا به، وانظر ما أنسب إعادة "إذ "عند التذكير بروح كامل حساً أو معنى وحذفها عند الناقص، فأثبتها عند التأييد بها في أصل الخلق وفي الكمال الموجب للحياة الأبدية وفي تعليم الكتاب وما بعده المفيض لحياة الأبد على كل من تخلّق بأخلاقه وفي خلق الطير وهو ظاهر وهكذا إلى الآخر.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
واذكر نعمتي عليك حين ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بك – وقد كذبك جمهور بني إسرائيل – فجعلتهم أنصارا لك يؤيدون حجتك، وينشرون دعوتك. والوحي في أصل اللغة الإشارة السريعة الخفية، أو الإعلام بالشيء بسرعة وخفاء، كما بيناه من قبل... وأطلق الوحي في القرآن على ما يلقيه الله تعالى في نفوس الأحياء من الإلهام كقوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا} [النحل: 68] وقوله: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم} [القصص: 7] وهكذا ألقى الله تعالى في قلوب الحواريين الإيمان به وبرسوله عيسى عليه السلام، وقيل الوحي إليهم هو ما أنزل على أنبيائهم.
والحواريون جمع حواري وهو من خلص لك وأخلص سرا وجهرا في مودتك، ومعناه في أصل اللغة الأبيض النقي اللون، والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود لبياضهن، وأما الحور العين فهما جمع حوراء وعيناء، من الحور (بالتحريك) وهو شدة بياض العين مع شدة سوادها، فالحوراء مؤنث الأحور، والحوارية مؤنث الحواري. ثم استعمل الحواري بمعنى النقي الخالص في غير اللون، قال في اللسان: وقال بعضهم: الحواريون صفوة الأنبياء الذين خلصوا لهم، قال الزجاج: الحواريون خلصان الأنبياء عليهم السلام وصفوتهم. قال: والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «الزبير ابن عمتي، وحواري من أمتي» أي خاصتي من أصحابي وناصري قال – وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حواريون. وتأويل الحواريين في اللغة: الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب. اه.
واللغة لا تدل على النقاء من كل عيب بهذا التحديد، وإنما تدل على النقاء والخلوص مطلقا، فيكفي في صحة الإطلاق أن يكونوا قد خلصوا لنصره، أو خلصوا ونقوا من الكفر والنفاق. وقد حكى الله عنهم هنا أنهم قالوا: آمنا. أي بالله ورسوله عيسى عليه السلام. وأشهدوا الله على أنفسهم إنهم مسلمون، أي مخلصون في إيمانهم مذعنون لما يترتب عليه من الأمر والنهي، وحكى عنهم في سورتي [آل عمران] و [الصف] أنهم حين قال المسيح «من أنصاري إلى الله» قالوا «نحن أنصار الله».
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كذلك يذكره بنعمة الله عليه في إلهام الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله؛ فإذا هم ملبون مستسلمون، يشهدونه على إيمانهم وإسلامهم أنفسهم كاملة لله: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي. قالوا: آمنا واشهد بأننا مسلمون)..
إنها النعم التي آتاها الله عيسى بن مريم، لتكون له شهادة وبينة. فإذا كثرة من أتباعه تتخذ منها مادة للزيغ؛ وتصوغ منها وحولها الأضاليل -فها هو ذا عيسى يواجه بها على مشهد من الملأ الأعلى، ومن الناس جميعا، ومنهم قومه الغالون فيه.. ها هو ذا يواجه بها ليسمع قومه ويروا؛ وليكون الخزي أوجع وأفضح على مشهد من العالمين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{واشهد بأنّنا مسلمون}. وسمّى إيمانهم إسلاماً لأنّه كان تصديقاً راسخاً قد ارتفعوا به عن مرتبة إيمان عامّة من آمن بالمسيح غيرهم، فكانوا مماثلين لإيمان عيسى، وهو إيمان الأنبياء والصدّيقين...