إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ} (111)

{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } عطف على ما قبله من أخواتها الواقعةِ ظروفاً للنعمة التي أُمر بذكرها ، وهي وإن كانت في الحقيقة عينُ ما يُفيده الجملُ التي أُضيفت إليها تلك الظروفُ من التأييد بروح القدس وتعليم الكتاب والحكمة وسائرِ الخوارق المعدودة ، لكنها لمغايَرَتها لها بعنوانٍ منْبئٍ عن غاية الإحسان أُمر بذكرها من تلك الحيثية ، وجُعلت عاملةً في تلك الظروف لكفاية المغايَرَة الاعتبارية في تحقيق ما اعتُبر في مدلول كلمةِ ( إذ ) من تعدد النسبة ، فإنه ظرف موضوعٌ لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومةُ الوقوعِ فيه للمخاطَب دون الأخرى ، فيُراد إفادةُ وقوعها أيضاً له ، فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى ، ويجعل ظرفاً معمولاً للنسبة الثانية ، ثم قد تكون المغايَرةُ بين النسبتين بالذات كما في قولك : اذكُرْ إحساني إليك إذ أحسنتَ إليّ . تريد تنبيهَ المخاطَب على وقوع إحسانه إليك وهما نسبتان متغايرتان بالذات ، وقد تكون بالاعتبار كما في قولك : اذكر إحساني إليك إذ منعتُك من المعصية ، تريد تنبيهه على كون منعه منها إحساناً إليه لا على إحسانٍ آخرَ واقعٍ حينئذ ، ومن هذا القبيل عامةُ ما وقع في التنزيل من قوله تعالى : { يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً } [ المائدة ، الآية 20 ] الآية ، وقولِه تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } [ المائدة ، الآية 11 ] إلى غير ذلك من النظائر . ومعنى إيحائه تعالى إليهم أمرُه تعالى إياهم في الإنجيل على لسانه عليه السلام . وقيل : إلهامُه تعالى إياهم كما في قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى } [ القصص ، الآية 7 ] و( أنْ ) في قوله تعالى : { أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } مفسِّرة لما في الإيحاء من معنى القول ، وقيل : مصدرية ، وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه السلام كأنه قيل : آمنوا بوحدانيتي في الألوهية والربوبية وبرسالة رسولي ولا تُزيِّلوه عن حيِّزه حطّاً ولا رفعاً ، وقوله تعالى : { قَالُوا } استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل : فماذا قالوا حين أوحِيَ إليهم ذلك ؟ فقيل : قالوا : { آمنّا } أي بما ذُكر من وحدانيته تعالى وبرسالة رسولِه كما يُؤذِنُ به قولهم : { وأشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي مخلِصون في إيماننا ، مِنْ أسلم وجهَه لله ، وهذا القولُ منهم بمقتضى وحيه تعالى وأمرِه لهم بذلك ، نعمةٌ جليلة كسائر النعم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام ، وكل ذلك نعمةٌ على والدته أيضاً . رُوي أنه عليه السلام لما علم أنه سيُؤمر بذكر هاتيك النعم العِظامِ جعل يلبَسُ الشَّعْرَ ويأكب الشجر ولا يدخر شيئاً لغد ، يقول : لكل يوم رزقُه ، لم يكن له بيت فيخرَبَ ولا ولد فيموتَ ، أينما أمسى بات .