اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ} (111)

من قال : إنهم كانُوا أنْبِيَاء ، قال : المُرَادُ هذا الوَحْيُ الذي يُوحَى إلى الأنبياء ، ومن قال : إنَّهُمْ ما كانوا أنْبِيَاء ، قال : المُرَادُ بذلك : الوَحْيُ والإلْهَام ، كقوله : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى } [ القصص : 7 ] وقوله : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } [ النحل : 68 ] ، وإنما ذُكِرَ هذا في مَعْرضِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ ؛ لأنَّ صَيْرُورة الإنْسَان مقبُولَ القَوْل عِنْدَ النَّاسِ ، محبوباً في قُلوبِهِم من أعْظَمِ نِعَمِ اللَّه - تبارك وتعالى - على الإنسان ، وذكر - تبارك وتعالى - إنَّما ألْقَى ذلك الوحي في قلوبهم فآمَنُوا وأسْلَمُوا ، وإنَّما قدَّم ذِكْرَ الإيمان على الإسْلام ؛ لأنَّ الإيمان صِفَةُ القَلْبِ والإسلام عبارةٌ عن الانْقِيادِ والخُضُوع في الظَّاهِرِ ، يعني : آمَنُوا بِقُلُوبِهِم وانْقَادُوا بِظَواهِرِهِم .

فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر في الآية : { اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ } [ المائدة : 110 ] أنَّ جميعَ ما ذكر اللَّهُ - تعالى - من النِّعَمِ مُخْتَصٌّ بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وليس لأمِّهِ بشيء منها تَعَلُّقٌ .

فالجوابُ : كُلّ ما حَصَلَ لِلْوَلَدِ من النِّعَمِ الجَلِيلَةِ ، والدَّرَجَات العالِيةَ ، فهو حَاصِلٌ للأمِّ على سبيلِ التضمّنِ والتَّبع ، قال - تبارك وتعالى - : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] ، فجعلهما معاً آيَةً واحِدَةً ؛ لشِدَّةِ اتِّصَال كُلِّ واحدٍ مِنْهُما بالآخر .

رُوِي أنَّهُ - تعالى - لمَّا قال لعيسى : { اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ } [ المائدة : 110 ] من لِبْسِ الشَّعْرِ وأكْلِ الشَّجَرِ ، لم يَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَد ، ويقول مع كل يومٍ رِزْقُهُ ، ولم يَكُنْ له بَيْتٌ فَيُخَرَّب ، ولا وَلدٌ فَيَمُوت ، أيْنَمَا أمْسَى باتَ .

قوله تعالى : { أَنْ آمِنُواْ بِي } : في " أنْ " وجهان :

أظهرهما : أنها تفسيرية ؛ لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القولِ ، لا حروفه .

والثاني : أنها مصدريَّةٌ بتأويلٍ متكلَّف ، أي : أوْجَبْتُ إليهم الأمر بالإيمان ، وهنا قالوا " آمَنَّا " ولم يُذْكَر المُؤمنُ به ، وهناك { آمَنَّا بِاللَّهِ } [ آل عمران : 52 ] فذكره ، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذكرُ الله تعالى فقط ، فأُعيدَ المؤمَنُ به ، فقيل : " بالله " وهنا ذُكِرَ شيئان قبل ذلك ، وهما : { أَنْ آمنُوا بِي وَبِرَسُولِي } ، فلم يُذْكَر ؛ ليشمل المذكورين ، وفيه نظرٌ ، وهنا قال " بأنَّنَا " وهناك قال " بِأنَّا " بحذف " نَا " ، وقد تقدَّم غيره مرة : أنَّ هذا هو الأصل ، وإنما جِيءَ هنا بالأصل ؛ لأنَّ المُؤمنَ به متعدِّدٌ ، فناسَبَه التأكيد .