مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ} (111)

وثامنها : قوله تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن ءامنوا بي وبرسولي } وقد تقدم تفسير الوحي . فمن قال إنهم كانوا أنبياء قال ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء . ومن قال إنهم ما كانوا أنبياء ، قال : المراد بذلك الوحي الإلهام والإلقاء في القلب كما في قوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } وقوله { وأوحى ربك إلى النحل } وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله على الإنسان . وذكر تعالى أنه لما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم ، آمنوا وأسلموا وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام ، لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر ، يعني آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم .

فإن قيل : إنه تعالى قال في أول الآية { اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام ، وليس لأمه بشيء منها تعلق .

قلنا : كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل الضمن والتبع للأم . ولذلك قال تعالى : { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر . وروي أنه تعالى لما قال لعيس { اذكر نعمتي عليك } كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ، ولا يدخر شيئا لغد ويقول مع كل يوم رزقه ، ومن لم يكن له بيت فيخرب ، ولا ولد فيموت ، أينما أمسى بات .