أخبر بحكم عام ، فقال : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } الذي هو العلم النافع ، الذي يهدي من الضلالة ، ويبين طرق الخير والشر .
{ وَدِينِ الْحَقِّ } أي : الدين الموصوف بالحق ، وهو العدل والإحسان والرحمة .
وهو كل عمل صالح مزك للقلوب ، مطهر للنفوس ، مرب للأخلاق ، معل للأقدار .
{ لِيُظْهِرَهُ } بما بعثه الله به { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } بالحجة والبرهان ، ويكون داعيا لإخضاعهم بالسيف والسنان .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من إرساله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } .
أى : هو - عز وجل - وحده ، الذى أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إرسالا ملتبسا الهدى ، أى : بالدليل الواضح والبرهان الساطع الذى يهدى للطريق التى هى أقوم . .
وأرسله - أيضا - بالدين الحق وهو دين الإِسلام ، الذى هو خاتم الأديان ، وأكملها ، { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } أى : من أجل أن يظهره ويعليه على جميع الأديان ، لما فيه من هدايات ، وعبادات ، وآداب ، وأحكام ، وتشريعات ، قد جمعت محاسن الأديان السابقة التى جاء بها الأنبياء ، وأضافت إليها جديدا اقتضته حكمة الله - تعالى - ورحمته بهذه الأمة التى أرسل رسوله محمدا إليها .
وقد بين - سبحانه - أن هذا الدين هو المقوبل عنده دون سواه ، فقال { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } ولقد ظهر هذا الدين فعم المشارق ، والمغارب ، وسيبقى - بإذن الله - ظاهرا عل الأديان كلها بقوة حجته ، ونصاعة براهينه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
والباء فى قوله : { وكفى بالله شَهِيداً } مزيدة لتأكيد هذا الإِظهار .
أى : وكفى بشهادة الله - تعالى - شهادة على حقية هذا الدين ، وعلى هذا الإِظهار الذى تكفل الله - تعالى - به لدين الإِسلام .
وهكذا صدقت رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتحقق وعد الله . ثم كان الفتح في العام الذي يليه . وظهر دين الله في مكة . ثم ظهر في الجزيرة كلها بعد . ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة حيث يقول :
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا . .
فلقد ظهر دين الحق ، لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان . ظهر في امبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من امبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية " أندونيسيا " . . وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي .
وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله - حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها ، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .
أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ، من حيث هو دين . فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصلية ؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب !
وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة . . ( وكفى بالله شهيدا ) . .
فوعد الله قد تحقق في الصورة السياسية الظاهرة قبل مضي قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية . ووعد الله ما يزال متحققا في الصورة الموضوعية الثابتة ؛ وما يزال هذا الدين ظاهرا على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادرا على العمل ، والقيادة ، في جميع الأحوال .
ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب !
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى } ملتبسا به أو بسببه أو لأجله . { ودين الحق } وبدين الإسلام . { ليظهره على الدين كله } ليغلبه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقا وإظهار فساد ما كان باطلا ، أو بتسليط المسلمين على أهله إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون ، وفيه تأكيد لما وعده من الفتح . { وكفى بالله شهيدا } على أن ما وعده كائن أو على نبوته بإظهار المعجزات .
وقوله عز وجل : { هو الذي أرسل رسوله } الآية تعظيم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام بأنه يظهره على جميع الأديان . ورأى بعض الناس[ أن ]{[10430]} لفظة : { ليظهره } تقتضي محو غيره به ، فلذلك قالوا : إن هذا الخبر يظهر للوجود عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ، فإنه لا يبقى في وقته غير دين الإسلام وهو قول الطبري والثعلبي . ورأى قوم أن الإظهار هو الإعلاء وإن بقي من الدين الآخر أجزاء ، وهذا موجود الآن في دين الإسلام ، فإنه قد عم أكثر الأرض وظهر على كل دين .
وقوله تعالى : { وكفى بالله شهيداً } معناه : شاهداً ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما شاهداً عندكم بهذا الخبر ومعلماً به . والثاني : شاهداً على هؤلاء الكفار المنكرين أمر محمد الرادين في صدره ومعاقباً لهم بحكم الشهادة ، والآية على هذا وعيد للكفار الذين شاحوا{[10431]} في أن يكتب محمد رسول الله ، فرد عليهم بهذه الآية كلها .
زيادة تحقيق لصدق الرؤيا بأن الذي أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ما كان ليريه رؤيا صادقة . فهذه الجملة تأكيد للتحقيق المستفاد من حرف ( قد ) ولام القسم في قوله : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] . وبهذا يظهر لك حسن موقع الضمير والموصولِ في قوله : { هو الذي أرسل رسوله } لأن الموصول يفيد العلم بضمون الصلة غالباً .
والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا } ، وهم يعلمون أن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله فهو يذكرهم بهاتين الحقيقتين المعلومتين عندهم حين لم يجروا على موجَب العلم بهما فخامرتهم ظنون لا تليق بمن يعلم أن رؤيا الرسول وحي وأن الموحي له هو الذي أرسله فكيف يريه رؤيا غير صادقة . وفي هذا تذكير ولَوْم للمؤمنين الذين غفلوا عن هذا وتعريض بالمنافقين الذين أدخلوا التردد في قلوب المؤمنين .
والباء في { بالهدى } للمصاحبة وهو متعلق ب { أرسل } والهدى أطلق على ما به الهدى ، أي كقوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] ، وقوله : { شهرُ رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس } [ البقرة : 185 ] . وعطف { دين الحق } على الهدى ليشمل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحكام أصولها وفروعها مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن من كل وحي بكلام لم يقصد به الإعجاز أو كان من سُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم
ويجوز أن يكون المراد { بالهدى } أصول الدين من اعتقاد الإيمان وفضائل الأخلاق التي بها تزكية النفس ، و { بدين الحق } : شرائع الإسلام وفروعه .
واللام في { ليظهره } لتعليل فعل { أرسل } ومتعلقاته ، أي أرسله بذلك ليظهر هذا الدين على جميع الأديان الإلهية السالفة ولذلك أكد ب { كله } لأنه في معنى الجمع . ومعنى { يظهره } يُعْلِيه . والإظهار : أصله مشتق من ظهر بمعنى بدا ، فاستعمل كناية عن الارتفاع الحقيقي ثم أطلق مجازاً عن الشرف فصار أظهره بمعنى أعلاه ، أي ليشرفه على الأديان كلها ، وهذا كقوله في حق القرآن { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } [ المائدة : 48 ] .
ولما كان المقصود من قوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى الخ الشهادة بأن الرؤيا صدْق ذيّل الجملة بقوله : وكفى باللَّه شهيداً } أي أجزأتكم شهادة الله بصدق الرؤيا إلى أن تروا مَا صْدَقَها في الإبان . وتقدم الكلام على نظير { وكفى باللَّه شهيداً } في آخر سورة النساء ( 79 ) .