قوله عز وجل :{ ظهر الفساد في البر والبحر } يعني : قحط المطر وقلة النبات ، وأراد بالبر البوادي والمفاوز ، وبالبحر المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية . قال عكرمة : العرب تسمي المصر بحراً ، يقال : أجدب البر وانقطعت مادة البحر ، { بما كسبت أيدي الناس } أي : بشؤم ذنوبهم ، وقال عطية وغيره : البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها ، والبحر هو البحر المعروف ، وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر فتخلوا أجواف الأصداف لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع في فيه من المطر صار لؤلؤاً . وقال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد : الفساد في البر : قتل أحد بني آدم أخاه ، وفي البحر : غصب الملك الجائر السفينة . قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذباً وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعافاً وقصد الحيوان بعضها بعضاً . قال قتادة : هذا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، امتلأت الأرض ظلماً وضلالة ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رجع راجعون من الناس بما كسبت أيدي الناس من المعاصي ، يعني كفار مكة . { ليذيقهم بعض الذي عملوا } أي : عقوبة بعض الذي عملوا من الذنوب ، { لعلهم يرجعون } عن الكفر وأعمالهم الخبيثة .
{ 41 } { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
أي : استعلن الفساد في البر والبحر أي : فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات بها ، وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك ، وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها .
هذه المذكورة { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا } أي : ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت ، فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم . فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة .
وبعد هذا التوجيه الحكيم ، يسوق - سبحانه - الآثار السيئة التى ترتب على الكفر والمعاصى ، ويأمر بالاعتبار بالسابقين ، ويبين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار فيقول : { ظَهَرَ الفساد فِي البر . . . لاَ يُحِبُّ الكافرين } .
قال ابن كثير ما ملخصه : قال ابن عباس وغيره : المراد بالبر ها هنا ، الفيافى . وبالبحر : الأمصار والقرى ، ما كان منها على جانب نهر .
وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف . وبالبحر المعروف .
والقول الأول أظهر ، وعليه الأكثر ، ويؤيده ما ذكره ابن إسحاق فى السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح ملك أيلة ، وكتب به ببحره - يعنى ببلده - .
والمعنى : ظهر الفساد فى البر والبحر ، ومن مظاهر ذلك انتشار الشرك والظلم ، والقتل وسفك الدماء ، والأحقاد والعدوان ، ونقص البركة فى الزروع والثمار والمطاعم والمشارب ، وغير ذلك مما هو مفسدة وليس بمنفعة . .
قال ابن كثير - رحمه الله - : وقال أبو العالية : من عصى الله فى الأرض فقد أفسد فيها ، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ، ولهذا جاء الحديث الذى رواه أبو داود : " الحد يقام فى الأرض ، أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً " .
والسبب فى هذا أن الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس ، أو أكثرهم ، أو كثير منهم ، عن تعاطى المحرمات . وإذا ارتكبت المعاصى كان سبباً فى محق البركات . . وكلما أقيم العدل كثرت البركات والخيرات . وقد ثبت فى الحديث الصحيح : " إن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب " .
وقوله - تعالى - : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } بيان لسبب ظهور الفساد . أى : عم الفساد وطم البر والبحر ، بسبب اقتراف الناس للمعاصى . وانهماكهم فى الشهوات ، وتفلتهم من كل ما أمرهم الله - تعالى - به ، أو نهاهم عنه ، كما قال - تعالى - : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } فظهور الفساد وانتشاره ، لا يتم عبثاً أو اعتباطاً ، وإنما يتم بسبب إعراض الناس عن طاعة الله - تعالى - ، وارتكابهم للمعاصى . .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على الوقوع فى المعاصى من بلاء واختبار ، فقال : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
واللام فى " ليذيقهم " للتعليل وهى متعلقة بظهر . أى : ظهر الفساد . . ليذيق - سبحانه - الناس نتائج بعض اعمالهم السيئة ، كى يرجعوا عن غيرهم وفسقهم ، ويعودوا إلى الطاعة والتوبة .
ويجوز ان تكون متعلقة بمحذوف ، اى : عاقبهم بانتشار الفساد بينهم ، ليجعلهم يحسون بسوء عاقبة الولوغ فى المعاصى ، ولعلهم يرجعون عنها ، إلى الطاعة والعمل الصالح .
ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم ؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد ، ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد ، ويجعله مسيطرا على أقدارها ، غالبا عليها :
( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) . .
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا ، ولا يقع مصادفة ؛ إنما هو تدبير الله وسنته . . ( ليذيقهم بعض الذي عملوا )من الشر والفساد ، حينما يكتوون بناره ، ويتألمون لما يصيبهم منه : ( لعلهم يرجعون )فيعزمون على مقاومة الفساد ، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم .
ظهر الفساد في البر والبحر } كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار ، أو الضلالة والظلم . وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و " البحور " . { بما كسبت أيدي الناس } بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه ، وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصبا . { ليذيقهم بعض الذي عملوا } بعض أجزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو العاقبة . وعن ابن كثير ويعقوب " لنذيقهم " بالنون . { لعلهم يرجعون } عما هم عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.