فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (41)

{ ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } بيّن سبحانه أن الشرك والمعاصي سبب لظهور الفساد في العالم .

واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور ، فقيل : هو القحط وعدم النبات ، ونقصان الرزق ، وكثرة الخوف ونحو ذلك ، وقال مجاهد وعكرمة : فساد البرّ : قتل ابن آدم أخاه : يعني قتل قابيل لهابيل ، وفي البحر : الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً .

وليت شعري أيّ دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب ، فإن الآية نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، والتعريف في الفساد يدلّ على الجنس ، فيعم كل فساد واقع في حيزي البرّ والبحر . وقال السديّ : الفساد الشرك ، وهو أعظم الفساد . ويمكن أن يقال : إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي ، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه . وقيل : الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش . وقيل الفساد : قطع السبل والظلم ، وقيل : غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه . والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات ، وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم ، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار . والبرّ والبحر هما المعروفان المشهوران . وقيل : البرّ : الفيافي ، والبحر : القرى التي على ماء قاله عكرمة ، والعرب تسمي الأمصار : البحار . قال مجاهد : البرّ ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر ما كان على شط نهر . والأوّل أولى . ويكون معنى البرّ : مدن البرّ ، ومعنى البحر : مدن البحر ، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها . والباء في { بما كسبت } للسببية ، " ما " إما موصولة أو مصدرية { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ } اللام متعلقة بظهر ، وهي لام العلة ، أي ليذيقهم عقاب بعض عملهم أو جزاء عملهم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم فيه من المعاصي ويتوبون إلى الله .

/خ46