المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (41)

ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد بسبب المعاصي في قوله { ظهر الفساد في البر والبحر } ، واختلف الناس في معنى { البر والبحر } في هذه الآية ، فقال مجاهد { البر } البلاد البعيدة من البحر ، و { البحر } السواحل والمدن التي على ضفة البحر والأنهار الكبار ، وقال قتادة { البر } الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري ، و { البحر } المدن جمع بحرة{[9320]} .

قال الفقيه الإمام القاضي : ومنه قول سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول الحديث ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه " الحديث{[9321]} ، ومما يؤيد هذا أن عكرمة قرأ «في البر والبحور »{[9322]} ، ورويت عن ابن عباس ، وقال مجاهد أيضاً : ظهور الفساد في البر قتل أحد ابني آدم لأخيه ، وفي البحر أخذ السفن غضباً ، وقال بعض العباد { البر } اللسان و { البحر } القلب ، وقال الحسن بن أبي الحسن { البر والبحر } هما المعروفان المشهوران في اللغة .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا هو القول الصحيح وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتغلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر ، قال ابن عباس : الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه ، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة ، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد كان الظلم عم الأرض براً وبحراً ، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله تعالى ، وقوله تعالى : { بما كسبت } تقديره جزاء ما كسبت ، ويحتمل أن تتعلق الباء ب { ظهر } أي كسبهم المعاصي في البر والبحر هو نفس الفساد الظاهر ، والترجي في «لعل » هو بحسب معتقداتنا وبحسب نظرنا في الأمور ، وقرأ عامة القراء والناس «ليذيقهم » بالياء ، وقرأ قنبل عن ابن كثير والأعرج وأبو عبد الرحمن السلمي «لنذيقهم » بالنون{[9323]} ومعناهما بين ، وقرأ أيضاً أبو عبد الرحمن «لتذيقهم » بالتاء من فوق .


[9320]:في (اللسان- بحر): "العرب تقول لكل قرية: هذه بحرتنا، والبحرة : الأرض والبلدة، وفي حديث القسامة: قتل رجلا ببحرة الرعاء، والبحرة: البلدة، وفي حديث عبد الله بن أبي: اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة". ويتضح من هذا أن البحرة هي البلدة، وأنها تصغر على بحيرة، ولكن لم نجد أن البحر جمع لها.
[9321]:أخرجه البخاري في التفسير، والأدب، والاستئذان، ومسلم في الجهاد، وأحمد في المسند 5-203، ولفظه كما في المسند عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة بن زيد وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال له عبد الله بن أبي: أيها المرء لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقا فلا تؤذينا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه، قال عبد الله ابن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك، قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال: أي سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي، قال كذا وكذا، قال: اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك، فذاك فعل به ما رأيت، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
[9322]:أي بالجمع كما نص على ذلك في البحر المحيط.
[9323]:وهي أيضا قراءة أبي حيوة، وسلام ، وسهل، وروح، وابن حسان. وهي قراءة قنبل من طريق ابن مجاهد، وابن الصباح، وأبو الفضل الواسطي عنه، ومحبوب عن أبي عمرو.