ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك ، وهو علمه المحيط ، فقال : { عَالِمُ الْغَيْبِ } أي : الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا ، من الواجبات والمستحيلات والممكنات ، { وَالشَّهَادَةِ } وهو ما نشاهد من ذلك { فَتَعَالَى } أي : ارتفع وعظم ، { عَمَّا يُشْرِكُونَ } به ، من لا علم عنده ، إلا ما علمه الله{[554]} .
إنما أتبع الاستدلال على انتفاء الشريك بقوله { علام الغيب والشهادة } المراد به عموم العلم وإحاطته بكل شيء كما أفادته لام التعريف في { الغيب والشهادة } من الاستغراق الحقيقي ، أي عالم كل مغيب وكل ظاهر ، لدفع توهم أن يقال : إن استقلال كل إله بما خلق قد لا يفضي إلى علو بعض الآلهة على بعض ، لجواز أن لا يعلم أحد من الآلهة بمقدار تفاوت ملكوته على ملكوت الآخر فلا يحصل علو بعضهم على بعض لاشتغال كل إله بملكوته . ووجه الدفع أن الإله إذا جاز أن يكون غير خالق لطائفة من المخلوقات التي خلقها غيره لئلا تتداخل القُدَر في مقدورات واحدة لا يجوز أن يكون غير عالم بما خلقه غيره لأن صفات العلم لا تتداخل ، فإذا علم أحد الآلهة مقدار ملكوت شركائه فالعالم بأشدية ملكوته يعلو على من هو دونه في الملكوت . فظهر أن قوله { عالم الغيب والشهادة } من تمام الاستدال على انتفاء الشركاء ، ولذلك فرع عنه بالفاء قوله { فتعالى عما يشركون } .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف { عالمُ الغيب } برفع { عالم } على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو من الحذف الشائع في الاستعمال إذا أريد الإخبار عن شيء بعد أن أجريت عليه أخبار أو صفات .
وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم ويعقوب بجر { عالم } على الوصف لاسم الجلالة في قوله { سبحان الله عما يصفون } .
و ( ما ) مصدرية . والمعنى فتعالى عن إشراكهم ، أي هو أعظم من أن يكون موصوفاً بكونه مشاركاً في وصفه العظيم ، أي هو منزه عن ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{عالم الغيب والشهادة} يعني: غيب ما كان، وما يكون، والشهادة {فتعالى} يعني: فارتفع {عما يشركون} لقولهم الملائكة بنات الله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"عالِمُ الغَيْبِ والشّهادَةِ" يقول تعالى ذكره: هو عالم ما غاب عن خلقه من الأشياء، فلم يَرَوْه ولم يشاهدوه، وما رأوه وشاهدوه. إنما هذا من الله خبر عن هؤلاء الذين قالوا من المشركين: اتخذ الله ولدا وعبدوا من دونه آلهة، أنهم فيما يقولون ويفعلون مُبْطِلون مخطئون، فإنهم يقولون ما يقولون من قول في ذلك عن غير علم، بل عن جهل منهم به، وإن العالم بقديم الأمور وبحديثها وشاهدها وغائبها عنهم، الله الذي لا يخفى عليه شيء، فخبره هو الحق دون خبرهم. وقال: "عالمُ الغَيْب "فرفع على الابتداء، بمعنى: هو عالم الغيب، ولذلك دخلت الفاء في قوله: "فَتَعالَى"...
وقوله: "فَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ" يقول تعالى ذكره: فارتفع الله وعلا عن شرك هؤلاء المشركين، ووصفهم إياه بما يصفون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ويحتمل أن يكون معناه إن عالم الغيب والشهادة لا يكون له شريك، لأنه أعلى من كل شيء في صفته...
"فتعالى عما يشركون" أي تعاظم الله عن أن يشرك هؤلاء الكفار معه من الأصنام والأوثان.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 91]
اتخاذ الأولاد لا يصحُّ كاتخاذ الشريك، والأمران جميعاً داخلان في حدِّ الاستحالة، لأن الولد أو الشريك يوجب المساواة في القَدْرِ، والصمدية تتقدَّسُ عن جواز أن يكون له مِثْلٌ أو جنس. قوله جل ذكره: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. كُلُّ أمرٍ نِيطَ باثنين فقد انتفى عنه النظامُ وصحةُ الترتيب، وأدلة التمانع مذكورة في مسائل الأصول. {سُبْحَانَ اللَّهِ} تقديساً له، وتنزيهاً عما وصفوه به {عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} تَنَزَّهَ عن أوهامِ مَنْ أشرك، وظنونِ مَنْ أفِكَ.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"عالم الغيب والشهادة" أي: السر والعلانية.
والمعنى: أنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب والشهادة، فغيره وإن علم الشهادة فلن يعلم معها الغيب، والشهادة التي يعلمها لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم، فلذلك قال: {فتعالى عما يشركون}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه، {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تقدس وتنزه وتعالى وعز وجل [عما يقول الظالمون والجاحدون].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أقام دليلاً آخر على كماله بوصفه بقوله: {عالم الغيب} ولما كان العلم بذلك لا يستلزم علم الشهادة كما للنائم قال: {والشهادة} ولا عالم بذلك غيره. ولما كان من الواضح الجلي أنه لا مدعي لذلك، ومن ادعاه غيره بأن كذبه لا محالة، وأن من تم علمه تمت قدرته، فاتضح تفرده كما بين في طه، تسبب عنه قوله: {فتعالى} أي علا العالم المشار إليه علواً عظيماً {عما يشركون} فإنه لا علم لشيء منه فلا قدرة ولا صلاحية لرتبة الإلهية.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
أي هو العالم بما غاب عن خلقه من الأشياء فلا يرونه ولا يشاهدونه، وبما يرونه ويبصرونه، والمراد أن الذين قالوا بالولد والشريك مخطئون فيما قالوا، فإنهم يقولون عن غير علم، وأن الذي يعلم الأشياء شاهدها و غائبها ولا تخفى عليه خافية من أمرهما قد نفى ذلك، فخبره هو الحق دون خبرهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إنما أتبع الاستدلال على انتفاء الشريك بقوله {علام الغيب والشهادة} المراد به عموم العلم وإحاطته بكل شيء كما أفادته لام التعريف في {الغيب والشهادة} من الاستغراق الحقيقي، أي عالم كل مغيب وكل ظاهر، لدفع توهم أن يقال: إن استقلال كل إله بما خلق قد لا يفضي إلى علو بعض الآلهة على بعض، لجواز أن لا يعلم أحد من الآلهة بمقدار تفاوت ملكوته على ملكوت الآخر فلا يحصل علو بعضهم على بعض لاشتغال كل إله بملكوته. ووجه الدفع أن الإله إذا جاز أن يكون غير خالق لطائفة من المخلوقات التي خلقها غيره لئلا تتداخل القُدَر في مقدورات واحدة لا يجوز أن يكون غير عالم بما خلقه غيره لأن صفات العلم لا تتداخل، فإذا علم أحد الآلهة مقدار ملكوت شركائه فالعالم بأشدية ملكوته يعلو على من هو دونه في الملكوت، فظهر أن قوله {عالم الغيب والشهادة} من تمام الاستدلال على انتفاء الشركاء، ولذلك فرع عنه بالفاء قوله {فتعالى عما يشركون}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقدم الغيب على الشهادة، لأن العلم بالغيب أبلغ في الدلالة على وصف العلم من الشهادة.
العلم: إدراك قضية أو نسبة واقعة مجزوم بها وعليها دليل، ولا يصل إلى العلم إلا بهذه الشروط، فإن كانت القضية مجزوما بها وواقعة، لكن لا تستطيع أن تدلل عليها كالطفل حين يقول: الله أحد، فهذا تقليد كما يقلد الولد أباه أو معلمه، فهو يقلد غيره في هذه المسألة إلى أن يوجد عنده اجتهاد فيها ويستطيع هو أن يدلل عليها. فإن كانت القضية مجزوما بها وليست واقعة، فهذا هو الجهل، فليس الجهل كما يظن البعض ألا تعلم، إنما الجهل أن تجزم بقضية مناقضة للواقع، لذلك تجد الجاهل أشق وأتعب لأهل الدعوة وللمعلمين من الخالي الذهن الذي لا يعرف شيئا، ليست لديه قضية بداية، فهذا ينتظر منك أن تعلمه، أما الجاهل فيحتاج إلى أن تخرج من ذهنه القضية الخاطئة أولا، ثم تضع مكانها الصواب.
والغيب: المراد به الغيب المطلق يعني: ما غاب عنك وعن غيرك، فنحن الآن مشهد لمن حضر مجلسنا هذا، إنما نحن غيب لمن غاب عنه، وهذا غيب مقيد، ومنه الكهرباء والجاذبية وغيرهما، لأن هذه الأشياء كانت غيبا عمن قبلنا مع أنها كانت موجودة، فلما توصلنا إلى مقدماتها ظهرت لنا وصارت مشهدا، لذلك قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.. (255)} [البقرة]. فأثبت الإحاطة للناس لكن بشرط مشيئته تعالى، فإن شاء أطلعهم على الغيب، وأوصلهم إلى معرفته حين يأتي أجل ميلاده وظهوره.
إذن: المعلوم لغيرك وغيب عنك ليس غيبا، وكذلك الغيب عنك وله مقدمات توصل إليه ليس غيبا، إنما الغيب هو الغيب المطلق الذي غاب عنك وعن غيرك، والذي قال الله تعالى عنه: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول.. (27)} [الجن]
والشهادة: يعني المشهود، لكن ما دام الحق سبحانه يعلم الغيب، فمن باب أولى يعلم المشهود، فلماذا ذكر الشهادة هنا؟ قالوا: المعنى: يعلم الغيب الذي غيب عني، ويعلم الشهادة لغيري. ومن ناحية أخرى: ما دام أن الله تعالى غيب مستتر عنا، وهناك كون ظاهر، فربما ظن البعض أن المستتر الغيب لا يعلم إلا الغيب، فأراد- سبحانه وتعالى- أن يؤكد على هذه المسألة، فهو سبحانه غيب، لكن يعلم الغيب والشهادة... ثم يقول تعالى: {فتعالى عما يشركون} لأن ما تشركونهم مع الله لا يعلمون شيئا من هذا كله، لا غيبا ولا شهادة، لذلك لا ينفعك إن عبدته، ولا يضرك إن لم تعبده.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هذه العبارة تهديد موجّه للمشركين بأنّ الله الذي يعلم السرّ والعلن، يعلم ما تقولونه، وسيحاسبكم عليه يوم القيامة في محكمته العادلة.