{ والذي قدر فهدى } قرأ الكسائي : { قدر } بتخفيف الدال ، وشددها الآخرون ، وهما بمعنىً واحد . قال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر ، والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراتعها . وقال مقاتل والكلبي : قدر لكل شيء مسلكه ، { فهدى } : عرفها كيف يأتي الذكر والأنثى . وقيل : قدر الأرزاق وهدى لاكتساب الأرزاق والمعاش . وقيل : خلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها . وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج من الرحم . قال الواسطي : قدر السعادة والشقاوة عليهم ، ثم يسر لكل واحد من الطائفتين سلوك سبيل ما قدر عليه .
{ والذي قَدَّرَ فهدى } والتقدير : وضع الأشياء فى مواضعها الصحيحة ، بمقدار معين ، وبكيفية معينة . . تقتضيها الحكمة ، ويقرها العقل السليم .
وقوله : { فهدى } من الهداية . بمعنى الإِرشاد والدالالة على طريق الخبر والبر . أى : وهو - سبحانه - الذى جعل الأشياء على مقادير مخصوصة فى أجناسها ، وفى أنواعها ، وفى أفرادها . وفى صفاتها وأفعالها . . وهدى كل مخلوق إلى ما ينبغى له طبعا واختيارا ، ووجهه إلى الوظيفة التى خلقه من أجلها ، بأن أوجد فيه العقل والميول والإِلهامات والغرائز والدوافع التى تعينه على أداء تلك الوظيفة .
وحذف - سبحانه - المفعول فى قوله : { الذي خَلَقَ فسوى .
والذي قَدَّرَ فهدى } للعموم ، لأن هذه الأفعال تشمل جميع مخلوقاته - عز وجل - .
قال الآلوسى : { والذي قَدَّرَ . . } أى : جعل الأشياء على مقادير مخصوصة . . { فهدى } أى : فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه ، وينبغى له . . فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانا ، لرأيت فى كل منهما ما تحار فيه العقول ، وتضيق عنه دفاتر النقول .
وأما فنون هداياته - سبحانه - للإِنسان على الخصوص ، ففوق ذلك بمراحل . . وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ، ولا يعلمها إلا اللطيف الخبير .
أتزعم أنك جرم صغير . . . وفيك انطوى العالم الأكبر
وقد فصل بعض العلماء الحديث عن مظاهر تقديره وهدايته - سبحانه - فقال : قوله - تعالى - : { الذي خَلَقَ فسوى . والذي قَدَّرَ فهدى } أى : الذى خلق كل شئ فسواه ، فأكمل صنعته ، وبلغ به غاية الكمال الذى يناسبه ، والذى قدر لكل مخلوق وظيفته وطريقته وغايته ، فهداه إلى ما خلقه لأجله ، وألهمه غاية وجوده ، وقدر له ما يصلحه مدة بقائه ، وهداه إليه . وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة فى كل شئ فى هذا الوجود ، ويشهد بها كل شئ فى رحاب هذا الكون ، من الكبير إلى الصغير .
فالطيور لها غريزة العودة إلى الوطن . . دون أن تضل عنه مهما بعد ، والنحلة تهتدى إلى خليتها ، مهما طمست الريح فى هبوبها على الأعشاب والأشجار كل دليل يرى . .
وسمك " السلمون " الصغير ، يمضى سنوات فى البحر ، ثم يعود إلى نهره الخاص به . .
وقوله : { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } قال مجاهد : هدى الإنسان للشقاوة والسعادة ، وهدى الأنعام لمراتعها .
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 5 ] أي : قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن عبد الله ابن عَمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " {[29969]} .
وقرأ جمهور القراء «قدّر » بشد الدال فيحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة ، وقوله تعالى : { فهدى } عام لوجوه الهدايات فقال الفراء : معناه هدى وأضل ، واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى ، وقال مقاتل والكلبي : هدى الحيوان إلى وطء الذكور الإناث ، وقيل هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي ، وقال مجاهد : هدى الناس للخير والشر ، والبهائم ، للمراتع . .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال مثالات ، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كل هداية .
وإعادة اسم الموصول في قوله : { والذي قدر } وقوله : { والذي أخرج المرعى } مع إغناء حرف العطف عن تكريره ، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب .
وعطْفُ قوله : { فهدى } بالفاء مثل عطف { فسوى } ، فإن حمل { خلق } و { قدّر } على عموم المفعول كانت الهداية عامة . والقول في وجه عطف { فهدى } بالفاء مثل القول في عطف { فسوى } .
وعطف { فهدى } على { قدر } عطفُ المسبَّب على السبب أي فهدى كلَّ مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإِدراك والإِرادة هي هداية الإِلهام إلى كيفية استعمال ما قدَّر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه .
والمعنى : قَدّر الأشياءَ كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدّرها لها ، فالله لما قدّر للإِنسان أن يكون قابلاً للنطق والعِلم والصناعة بما وَهَبَه من العقل وآلات الجسد هداهُ لاستعمال فكره لما يُحصِّل له ما خُلق له ، ولمَّا قَدر البقرةَ للدَّر ألهمها الرَعْي ورِثْمَانَ ولدها لِتَدرَّ بذلك للحالب ، ولمّا قدر النحل لإنتاج العسَل ألهمها أن ترعى النَّور والثمار وألهمها بناء الجِبْح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل .
ومن أجلِّ مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع . فمفعول « هدى » محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهَدْي فهو مخصوص بذوات الإِدراك والإِرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدَّر نظامها ولم يقدِّر لها الإِدراك مثل تقدير الإِثمار للشجر ، وإنتاج الزريعة لتجدد الإِنبات ، فذلك غير مراد من قوله : { فهدى } لأنها مخلوقة ومقدّرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء ، وإن جعل مفعول { خلق } خاصاً ، وهو الإنسان كان مفعول { قدر } على وزانه ، أي تقدير كمال قوى الإِنسان ، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإِدراك والعقل .
وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نِعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن هذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خَلق النبي صلى الله عليه وسلم تسوية تلائم ما خلَقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] وقال : { ونيسرك لليسرى } [ الأعلى : 8 ] .