اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ} (3)

قوله : { والذي قَدَّرَ فهدى } ؛ قرأ الكسائيُّ وعليٌّ - رضي الله عنه{[59884]} - والسلميُّ : «قدر » بتخفيف الدال ، والباقون : بالتشديد .

والمعنى : قدر كل شيء بمقدار معلوم .

ومن خفف ، قال القفَّال{[59885]} : معناه : ملك فهدى ، وتأويله : انه تعالى خلق كل شيء ، فسوى ، وملك ما خلق ، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد هذا هو الملك ، فهداه لمنافعه ومصالحه .

ومنهم من قال : إنهما لغتان بمعنى واحدٍ ، وعليه قوله تعالى : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون } [ المرسلات : 23 ] بالتشديد والتخفيف ، وقد تقدم .

فصل في معنى الآية

قال مجاهدٌ : قدَّر الشقاوة والسعادة ، وهدى للرشد والضلالة ، وعنه : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة ، وهدى الأنعام لمراعيها{[59886]} .

وقيل : قدَّر أقواتهم وأرزاقهم ، وهداهم لمعاشهم وإن كانوا أناساً ، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً .

وعن ابن عبَّاسٍ والسديِّ ومقاتلٍ والكلبيِّ في قوله تعالى : «فَهدَى » : عرف خلقه كيف يأتي الذكرُ الأنثى ، كما قال تعالى في سورة «طه » : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، أي : الذكر للأنثى{[59887]} .

وقال عطاء : جعل لكل دابَّة ما يصلحها ، وهداها له{[59888]} .

وقيل : «قدَّر فَهَدى » أي : قدّر لكل حيوانٍ ما يصلحه ، فهداهُ إليه ، وعرفه وجه الانتفاع به ، يقال : إن الأفعى إذا أتت عليها ألفُ سنة عميت ، وقد ألهمها الله تعالى ، أن مسح العينين بورق الرازيانج الغض ، يرد إليها بصرها ، فربما كانت في بريَّة بينها وبين الريف مسيرة أيام ، فتطوى تلك المسافة على طولها ، وعماها ، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرَّازيانج ، لا تخطئها ، فتحك بها عينها ، فترجع باصرة بإذن الله تعالى .

[ وهدايات الإنسان إلى أن مصالحه من أغذيته وأدويته ، وأمور دنياه ودينه وإلهامات البهائم والطيور ، وهوام الأرض باب ثابت واسع ، فسبحان ربي الأعلى ]{[59889]} .

وقال السديُّ : قدَّر مدة الجنين في الرحم ، ثم هداه إلى الخروج من الرحم{[59890]} .

وقال الفراء : «قدَّى فهَدى » أي : وأضل ، فاكتفى بذكر أحدهما ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، ويحتمل أن يكون بمعنى «دَعَا » إلى الإيمان كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] أي لتدعو وقد دعا الكل إلى الإيمان ]{[59891]} .

وقيل : «فَهَدَى » أي : دلَّهم بأفعاله على توحيده وكونه عالماً قادراً .

واعلم أن الاستدلال بالخلق وبالهدى ، هي معتمد الأنبياء .

قال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] .

وقال موسى - عليه الصلاة والسلام - لفرعون : { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، وقال هنا ذلك ، وإنما خصت هذه الطريقة لوضوحها وكثرة عجائبها .


[59884]:ينظر: السبعة 680، والحجة 6/398، وإعراب القراءات 2/466، وحجة القراءات 758، والقرطبي 20/12.
[59885]:ينظر: الفخر الرازي 31/126.
[59886]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/5543)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/566)، وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[59887]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/252) عن السدي وذكره القرطبي (20/12)، عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي.
[59888]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/12)، عن عطاء.
[59889]:سقط من: ب.
[59890]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/252).
[59891]:سقط من ب.