قوله تعالى : { الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون* وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض } ومعنى تسخيرها أنه خلقها لمنافعها . فهو مسخر لنا من حيث إنا ننتفع به ، { جميعاً منه } فلا تجعلوا لله أنداداً ، قال ابن عباس : ( جميعاً منه ) كل ذلك رحمة منه . قال الزجاج : كل ذلك تفضل منه وإحسان . { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون* }
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } أي : من فضله وإحسانه ، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن ، وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته ، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه ، ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وجملة ذلك أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها دال على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته ، وما فيها من الإحكام والإتقان وبديع الصنعة وحسن الخلقة دال على كمال حكمته وعلمه ، وما فيها من السعة والعظمة والكثرة دال على سعة ملكه وسلطانه ، وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات دليل على أنه الفعال لما يريد ، وما فيها من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية دليل على سعة رحمته ، وشمول فضله وإحسانه وبديع لطفه وبره ، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له ، وأن رسله صادقون فيما جاءوا به ، فهذه أدلة عقلية واضحة لا تقبل ريبا ولا شكا .
وقوله - تعالى - : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ . . } تعميم بعد تخصيص .
أي : يسر لكم الانتفاع بما في البحر من خيرات ، ويسر لكم - أيضاً - الانتفاع بكل ما في السماوات والأرض من نعم لا تعد ولا تحصى ، وكلها منه - تعالى - وحده ، لا من أحد سواه .
فقوله : { جَمِيعاً } حال من { وَمَا فِي الأرض } ، أو تأكيد له . والضمير في قوله - { مِّنْهُ } - يعود إلى الله - عز وجل - ، والجار والمجرور حال من { مَا } أيضا ، أي : جميعا كائنا منه - تعالى - لا من غيره .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى { مِّنْهُ } في قوله : { جَمِيعاً مِّنْهُ } ؟ وما موقعها من الإِعراب ؟
قلت : هي واقعة موقع الحال . والمعنى : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده . يعنى أنه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ، ثم سخرها لخلقه ، ويجوز أن يكون خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هي جميعا منه .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } المذكور من تسخير البحر وما في السماوات والأرض لكم { لآيَاتٍ } ساطعات ، وعلامات واضحات ، ودلائل بينات ، على وحدانية الله - تعالى - وقدرته وفضله { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في هذه النعم ، ويحسنون شكرها .
وخص المتفكرين بالذكر ، لأنهم هم الذين ينتفعون بما بين أيديهم من نعم ، إذ بالتفكر السليم ينتقل العاقل من مرحلة الظن ، إلى مرحلة اليقين ، التي يجزم معها بأن المستحق للعبادة والحمد ، إنما هو الله رب العالمين .
ومن تخصيص البحر بالذكر إلى التعميم والشمول . فلقد سخر الله لهذا الإنسان ما في السماوات وما في الأرض ، من قوى وطاقات ونعم وخيرات - مما يصلح له ويدخل في دائرة خلافته - :
( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ) . .
فكل شيء في هذا الوجود منه وإليه ؛ وهو منشئه ومدبره ؛ وهو مسخره أو مسلطه . وهذا المخلوق الصغير . . الإنسان . . مزود من الله بالاستعداد لمعرفة طرف من النواميس الكونية . يسخر به قوى في هذا الكون وطاقات تفوق قوته وطاقته بما لا يقاس ! وكل ذلك من فضل الله عليه . وفي كل ذلك آيات لمن يفكر ويتدبر ؛ ويتبع بقلبه وعقله لمسات اليد الصانعة المدبرة المصرفة لهذه القوى والطاقات :
( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .
والفكر لا يكون صحيحاً وعميقاً وشاملاً ، إلا حين يتجاوز القوى والطاقات التي يكشف سرها ، إلى مصدر هذه القوى والطاقات ؛ وإلى النواميس التي تحكمها ؛ وإلى الصلة بين هذه النواميس وفطرة الإنسان . هذه الصلة التي تيسر للإنسان الاتصال بها وإدراكها . ولولاها ما اتصل ولا أدرك . ولا عرف ولا تمكن ، ولا سخر ولا انتفع بشيء من هذه القوى والطاقات . .
ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : من الكواكب والجبال ، والبحار والأنهار ، وجميع ما تنتفعون به ، أي : الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ؛ ولهذا قال : { جَمِيعًا مِنْهُ } أي : من عنده وحده لا شريك له في ذلك ، كما قال تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] .
وروى ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } كل شيء هو من الله ، وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه ، فذلك جميعا منه ، ولا ينازعه فيه المنازعون ، واستيقن أنه كذلك .
وقال{[26310]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خَلَف العسقلاني ، حدثنا الفِرْياني ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المِنْهال بن عمرو ، عن أبي أراكة قال : سأل رجل عبد الله بن عمرو قال : مم خلق الخلق ؟ قال : من النور والنار ، والظلمة والثرى . قال وائت ابن عباس فاسأله . فأتاه فقال له مثل ذلك ، فقال : ارجع إليه فسله : مم خلق ذلك كله ؟ فرجع إليه فسأله ، فتلا { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } هذا أثر غريب ، وفيه نكارة .
{ وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا } بأن خلقها نافعة لكم . { منه } حال من ما ، أي سخر هذه الأشياء كائنة منه ، أو خبر لمحذوف أي هي جميعا منه ، أو ل { ما في السموات } { وسخر لكم } تكرير للتأكيد أو ل { ما في الأرض } ، وقرئ منه على المفعول له ومنه على أنه فاعل { سخر } على الإسناد المجازي أو خبر محذوف . { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } في صنائعه .
وتسخير { ما في السماوات } : هو تسخير الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء والملائكة الموكلة بهذا كله ، ويروى أن بعض الأحبار نزل به ضيف فقدم إليه رغيفاً ، فكأن الضيف احتقره فقال له المضيف : لا تحتقره فإنه لم يستدر حتى تسخر فيه من المخلوقات والملائكة ثلاثمائة وستون بين ما ذكرنا من مخلوقات السماء وبين الملائكة وبين صناع بني آدم الموصلين إلى استدارة الرغيف ، وتسخير ما في الأرض هو تسخير البهائم والمياه والأودية والجبال وغير ذلك . ومعنى قوله : { جميعاً منه } قال ابن عباس : كل إنعام فهو من الله تعالى .
وقرأ جمهور الناس : «منه » وهو وقف جيد . وقرأ مسلمة بن محارب : «مَنُّه » بفتح الميم وشد النون المضمومة بتقدير : هو منه{[10264]} . وقرأ ابن عباس : بكسر الميم وفتح النون المشددة ونصب التاء على المصدر{[10265]} . قال أبو حاتم : سند هذه القراءة إلى ابن عباس مظلم ، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير . وقرأ مسلمة بن محارب أيضاً : «مِنةٌ » بكسر الميم وبالرفع في التاء .
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض جَمِيعاً منه } .
هذا تعميم بعد تخصيص اقتضاه الاهتمام أولاً ثم التعميم ثانياً . و { ما في السموات وما في الأرض } عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده : كالشمس للضياء ، والمطر للشراب ، أو من بعض أحواله : كالكواكب للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر ، والشجر للاستظلال ، والأنعام للركوب والحرث ونحو ذلك . وأما ما في السماوات والأرض مما لا يفيد الناس فغير مراد مثل الملائكة في السماء والأهوية المنحبسة في باطن الأرض التي يأتي منها الزلزال .
وانتصب { جميعاً } على الحال من { ما في السموات وما في الأرض } . وتنوينه تنوين عوض عن المضاف إليه ، أي جميع ذلك مثل تنوين ( كل ) في قوله : { كلاً هدينا } [ الأنعام : 84 ] .
و ( من ) ابتدائية ، أي جميع ذلك من عند الله ليس لغيره فيه أدنى شركة . وموقع قوله : { منه } موقع الحال من المضاف إليه المحذوف المعوّض عنه التنوين أو من ضمير { جميعاً } لأنه في معنى مجموعاً .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِّقَوْمٍ يتفكرون } .
أي في ذلك المذكور من تسخير البحر وتسخير ما في السموات والأرض دلائل على تفرد الله بالإلهية فهي وإن كانت منناً يحق أن يشكرها الناس فإنها أيضاً دلائل إذا تفكر فيها المنعَم عليهم اهتدوا بها ، فحصلت لهم منها ملائمات جسمانية ومعارف نفسانية ، وبهذا الاعتبار كانت في عداد الآيات المذكورةِ قبلها من قوله : { إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين } [ الجاثية : 3 ] ، وإنما أُخرت عنها لأنها ذكرت في معرض الامتنان بأنها نعم ، ثم عُقبت بالتنبيه على أنها أيضاً دلائل على تفرد الله بالخلق .
وأوثر التفكر بالذكر في آخر صفات المستدلين بالآيات ، لأن الفكر هو منبع الإيمان والإيقان والعلم المتقدمة في قوله : { لآيات للمؤمنين } [ الجاثية : 3 ] { آياتٌ لقوم يوقنون } [ الجاثية : 4 ] { آياتٌ لقوم يعقلون } [ الجاثية : 5 ] .