ثم إن الله تعالى : نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود ، فقال :{ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } أي كفعل المنافقين واليهود ، وقال مقاتل أراد بقوله :{ آمنوا } المنافقين ، أي آمنوا بلسانهم ، قال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم ، قال لهم : لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } ، { وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون } .
وهؤلاء المذكورون إما أناس من المنافقين يظهرون الإيمان ، ويخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا{[1012]} وهم كذبة في ذلك ، وإما أناس من أهل الكتاب ، الذين إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : " السام عليك يا محمد " يعنون بذلك الموت .
وبعد أن فضح الله - تعالى - المنافقين ومن على شاكلتهم فى الكفر والضلال ، وبين سوء عاقبتهم بسبب مسالكهم الخبيثة . . . بعد كل ذلك وجه الله - تعالى - ثلاث نداءات إلى المؤمنين ، أدبهم فيها بأدبه السامى . . . فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا . . . } .
قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ } تعليم وإرشاد منه - سبحانه - للمؤمنين ، لكى يكون حديثهم فيما بينهم ، يقوم على الخير لا على الشر ، وعلى الطاعة لا على المعصية ، وعلى البر والتقوى لا على الإثم والعدوان ، حتى لا يتشبهوا بالمنافقين ، الذين كانوا على النقيض من ذلك ، أى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، { إِذَا تَنَاجَيْتُمْ } بأن أسر بعضكم إلى بعض حديثا { فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } كما هو شأن المنافقين ومن على شاكلتهم فى الكفر والضلال .
{ وَتَنَاجَوْاْ } فيما بينكم { بالبر والتقوى } والبر ضد الإثم والعدوان ، وهو يعم جميع أفعال الخير التى أمر الله - تعالى - بها . والتقوى : الامتثال لأمر الله - تعالى - وصيانة النفس عن كل مالا يرضاه .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : وراقبوا الله - تعالى - فى كل أحوالكم ، فإنه وحده يكون مرجعكم يوم القيامة ، وسيبعثكم ويجمعكم للحساب والجزاء .
وهنا يلتفت إلى الذين آمنوا ، يخاطبهم بهذا النداء : يا أيها الذين آمنوا لينهاهم عن التناجي بما يتناجى به المنافقون من الإثم والعدوان ومعصية الرسول ، ويذكرهم تقوى الله ، ويبين لهم أن النجوى على هذا النحو هي من إيحاء الشيطان ليحزن الذين آمنوا ، فليست تليق بالمؤمنين :
( يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وتناجوا بالبر والتقوى ، واتقوا الله الذي إليه تحشرون . إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
ويبدو أن بعض المسلمين ممن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسة التنظيم الإسلامي ، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور ، ليتناجوا فيما بينهم ويتشاوروا بعيدا عن قيادتهم . الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية ، وروح التنظيم الإسلامي ، التي تقتضي عرض كل رأي وكل فكرة وكل اقتراح على القيادة ابتداء ، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة . كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة ، وما يؤذي الجماعة المسلمة - ولو لم يكن قصد الإيذاء قائما في نفوس المتناجين - ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الآراء فيها على غير علم ، قد يؤدي إلى الإيذاء ، وإلى عدم الطاعة .
وهنا يناديهم الله بصفتهم التي تربطهم به ، وتجعل للنداء وقعه وتأثيره : يا أيها الذين آمنوا . . لينهاهم عن التناجي - إذا تناجوا - بالإثم والعدوان ومعصية الرسول . ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي يتناجى بها المؤمنون : ( وتناجوا بالبر والتقوى ) . . لتدبير وسائلهما وتحقيق مدلولهما . والبر : الخير عامة . والتقوى : اليقظة والرقابة لله سبحانه ، وهي لا توحي إلا بالخير . ويذكرهم بمخافة الله الذي يحشرون إليه ، فيحاسبهم بما كسبوا . وهو شاهده ومحصيه . مهما ستروه وأخفوه .
قال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان ، قالا : أخبرنا همام ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، قال : كنت آخذا بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل ، فقال : كيف سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول في النجوى يوم القيامة ? قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إن الله يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ، ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ? أتعرف ذنب كذا ? أتعرف ذنب كذا ? حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته . وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين " .
ثم قال الله مُؤدّبًا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي : كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مَالأهم على ضلالهم من المنافقين ، { وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : فيخبركم{[28404]} بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم ، وسيجزيكم بها .
قال الإمام أحمد : حدثنا بَهْزُ وعفان قالا أخبرنا همام ، حدثنا قتادة ، عن صفوان بن مُحْرِز قال : كنت آخذًا بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل فقال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كَنَفه ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قَرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك ، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم . ثم يُعْطَى كتابَ حسناته ، وأما الكفار{[28405]} والمنافقون فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين " ، أخرجاه في الصحيحين ، من حديث قتادة{[28406]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله إذَا تَناجَيْتُمْ بينكم فَلا تَتَناجَوْا بالإثْمِ وَالعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَ لكن تَنَاجَوْا بالْبِرّ يعني طاعة الله وما يقرّبكم منه ، { والتّقْوَى }يقول : وباتقائه بأداء ما كلّفكم من فرائضه واجتناب معاصيه ؛ { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي إلَيْهِ تُحْشَرونَ }يقول : وخافوا الله الذي إليه مصيركم ، وعنده مجتمعكم في تضييع فرائضه ، والتقدّم على معاصيه أن يعاقبكم عليه عند مصيركم إليه .
خطاب للمنافقين الذين يظهرون الإِيمان فعاملهم الله بما أظهروه وناداهم بوصف الذين آمنوا كما قال : { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } [ المائدة : 41 ] ومنه ما حكاه الله عن المشركين { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] أي يأيها الذي نزل عليه الذكر بزعمه ، ونبههم إلى تدارك حالهم بالإِقلاع عن آثار النفاق على عادة القرآن من تعقيب التخويف بالترغيب . فالجملة استئناف ابتدائي .
ذلك أن المنافقين كانوا يعملون بعمل أهل الإِيمان إذا لَقُوا الذين آمنوا فإذا رجعوا إلى قومهم غلب عليهم الكفر فكانوا في بعض أحوالهم مقاربين الإِيمان بسبب مخالطتهم للمؤمنين . ولذلك ضرب الله لهم مثلاً بالنور في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ثم قوله : { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } [ البقرة : 20 ] . وهذا هو المناسب لقوله تعالى : { فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول } ، ويكون قوله : { وتناجوا بالبر والتقوى } تنبيهاً على ما يجب عليهم إن كانوا متناجين لا محالة .
ويجوز أن تكون خطاباً للمؤمنين الخلّص بأنْ وجه الله الخطاب إليهم تعليماً لهم بما يحسن من التناجي وما يقبح منه بمناسبة ذم تناجي المنافقين فلذلك ابتدىء بالنهي عن مثل تناجي المنافقين وإن كان لا يصدر مثله من المؤمنين تعريضاً بالمنافقين ، مثل قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } [ آل عمران : 156 ] ، ويكون المقصود من الكلام هو قوله : { وتناجوا بالبر والتقوى } تعليماً للمؤمنين .
والتقييد ب { إذا تناجيتم } يشير إلى أنه لا ينبغي التناجي مطلقاً ولكنهم لما اعتادوا التناجي حُذروا من غوائله ، وإلا فإن التقييد مستغنى عنه بقوله : « لا تتناجوا بالإِثم والعدوان » . وهذا مثل ما وقع في حديث النهي عن الجلوس في الطرقات من قوله صلى الله عليه وسلم « فإن كنتم فاعلين لا محالة فاحفظوا حَق الطريق » .
وقرأ الجمهور { فلا تتناجوا } بصيغة التفاعل . وقرأه رويس عن يعقوب وحده { فلا تنتجُوا } بوزن تَنْتَهُوا .
والأمر من قوله : { وتناجوا بالبر } مستعمل في الإِباحة كما اقتضاه قوله تعالى : { إذا تناجيتم } .
والإِثم والعدوان ومعصية الرسول تقدمت . وأما البرّ فهو ضد الإِثم والعدوان وهو يعم أفعال الخير المأمور بها في الدين .
و{ التقوى } : الامتثال ، وتقدمت في قوله تعالى : { هدى للمتقين } في سورة [ البقرة : 2 ] .
وفي قوله : { الذي إليه تحشرون } تذكير بيوم الجزاء . فالمعنى : الذي إليه تحشرون فيجازيكم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله (إِذَا تَنَاجَيْتُمْ) بينكم، (فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) ولكن (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ)، يعني: طاعة الله، وما يقرّبكم منه، (وَالتَّقْوَى) يقول: وباتقائه بأداء ما كلَّفكم من فرائضه واجتناب معاصيه، (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يقول: وخافوا الله الذي إليه مصيركم، وعنده مجتمعكم في تضييع فرائضه، والتقدّم على معاصيه أن يعاقبكم عليه عند مصيركم إليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وعندنا يحتمل صرف النهي إلى المؤمنين عن التناجي بمثل ما تناجى أولئك، أي لا تتناجوا أنتم يا أهل الإيمان فيهم بالإثم والعدوان كما يتناجون فيكم. يقول: لا تجازوهم بالذي فعلوا هم بكم، ولكن تناجوا فيهم بالبر والتقوى... {البر} يحتمل كل أنواع الخير. وأما التقوى فهو كل ما يقوم به أنفسهم من النار.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنما قَبُحَ ذلك منهم وعَظُمَ الخطرُ لأنه تضمَّن إفسادَ ذات البَيْن، وخيرُ الأمورِ ما عاد بإصلاح ذات البَيْن، وبعكسه إذا كان الأمر بضدِّه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وصى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بأن لا يكون لهم تناج في مكروه، وذلك عام في جميع الناس إلى يوم القيامة، وخص «الإثم» بالذكر لعمومه، {والعدوان} لعظمته في نفسه، إذ هي ظلامات العباد، وكذلك {معصية الرسول} ذكرها طعناً على المنافقين إذ كان تناجيهم في ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة، {إذا تناجيتم} أي قلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سراً، {فلا تتناجوا} أي توجدوا هذه الحقيقة ظاهرة كتناجي المنافقين، {بالإثم} أي الذنب وكل فعل يكتب بسببه عقوبة. ولما عم خص فقال: {والعدوان} أي الذي هو العدو الشديد بما يؤذي وإن كان العادي يظن أنه لا يكتب عليه به إثم. ولما كان السياق لإجلال النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا تعرف حقيقة الإثم إلا منه قال تعالى: {ومعصيت الرسول} أي الكامل في الرسلية فإن ذلك يشوش فكره فلا يدعه يبلغ رسالات ربه وهو منشرح الصدر طيب النفس...
{وتناجوا بالبر} أي بالخير الواسع الذي فيه حسن التربية، ولما كان ذلك قد يعمل طبعاً، حث على القصد الصالح بقوله: {والتقوى} وهي ما يكون في نفسه ظاهراً أنه يكون سترة تقي من عذاب الله بأن يكون مرضياً لله ولرسوله.
ولما كانت التقوى أم المحاسن، أكدها ونبه عليها بقوله: {واتقوا الله} أي اقصدوا قصداً يتبعه العمل أن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية. ولما كانت ذكرى الآخرة هي مجمع المخاوف ولا سيما فضائح الأسرار على رؤوس الأشهاد قال: {الذي إليه} أي خاصة {تحشرون} أي تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره، وهو يوم القيامة، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير لا تخفى عليه خافية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ينفرهم من التناجي والمسارة والتدسس بالقول في خفية عن الجماعة المسلمة، التي هم منها، ومصلحتهم مصلحتها، وينبغي ألا يشعروا بالانفصال عنها في شأن من الشئون. فيقول لهم: إن رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبث في قلوبهم الحزن والتوجس، وتخلق جوا من عدم الثقة؛ وأن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم. ويطمئن المؤمنين بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد:
(إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا، وليس بضارهم شيئا -إلا بإذن الله- وعلى الله فليتوكل المؤمنون)..
فالمؤمنون لا يتوكلون إلا على الله. فليس وراء ذلك توكل، وليس من دون الله من يتوكل عليه المؤمنون!
وقد وردت الأحاديث النبوية الكريمة بالنهي عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة وتزعزع الثقة وتبعث التوجس:
جاء في الصحيحين من حديث الأعمش -بإسناده- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه".
وهو أدب رفيع، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك. فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر، أو ستر عورة، في شأن عام أو خاص، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم. وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة. ولا يجوز أن يكون تجمعا جانبيا بعيدا عن علم الجماعة. فهذا هو الذي نهى عنه القرآن ونهى عنه الرسول. وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة. وهذا هو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا. ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة، لأن الله حارسها وكالئها؛ وهو شاهد حاضر في كل مناجاة، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر. ولن يضر الشيطان المؤمنين.. (إلا بإذن الله).. وهو استثناء تحفظي لتقرير طلاقة المشيئة في كل موطن من مواطن الوعد والجزم، لتبقى المشيئة حرة وراء الوعد والجزم..
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون).. فهو الحارس الحامي، وهو القوي العزيز، وهو العليم الخبير. وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب. ولا يكون في الكون إلا ما يريد. وقد وعد بحراسة المؤمنين. فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتقييد ب {إذا تناجيتم} يشير إلى أنه لا ينبغي التناجي مطلقاً ولكنهم لما اعتادوا التناجي حُذروا من غوائله، وإلا فإن التقييد مستغنى عنه بقوله: « لا تتناجوا بالإِثم والعدوان». وهذا مثل ما وقع في حديث النهي عن الجلوس في الطرقات من قوله صلى الله عليه وسلم « فإن كنتم فاعلين لا محالة فاحفظوا حَق الطريق». والأمر من قوله: {وتناجوا بالبر} مستعمل في الإِباحة كما اقتضاه قوله تعالى: {إذا تناجيتم}. والإِثم والعدوان ومعصية الرسول تقدمت. وأما البرّ فهو ضد الإِثم والعدوان وهو يعم أفعال الخير المأمور بها في الدين. و {التقوى}: الامتثال
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يستفاد من هذا التعبير بصورة واضحة أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين، ولابدّ أن يكون مسارها التواصي بالخير والحسنى، وبهذه الصورة فلا مانع منها.