قوله عز وجل { وإذ قال لقمان لابنه } واسمه أنعم ، ويقال : مشكم ، { وهو يعظه : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } قرأ ابن كثير : يا بني لا تشرك بالله بإسكان الياء ، وفتحها حفص ، والباقون بالكسر ، { يا بني إنها } بفتح الياء حفص ، والباقون بالكسر ، { يا بني أقم الصلاة } بفتح الياء البزي عن ابن كثير وحفص ، وبإسكانها القواس ، والباقون بكسرها .
{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ } أو قال له قولا به يعظه بالأمر ، والنهي ، المقرون بالترغيب
والترهيب ، فأمره بالإخلاص ، ونهاه عن الشرك ، وبيَّن له السبب في ذلك فقال : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ووجه كونه عظيما ، أنه لا أفظع وأبشع ممن سَوَّى المخلوق من تراب ، بمالك الرقاب ، وسوَّى الذي لا يملك من الأمر شيئا ، بمن له الأمر كله ، وسوَّى الناقص الفقير من جميع الوجوه ، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه ، وسوَّى من لم ينعم بمثقال ذرة [ من النعم ]{[666]} بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ، ودنياهم وأخراهم ، وقلوبهم ، وأبدانهم ، إلا منه ، ولا يصرف السوء إلا هو ، فهل أعظم من هذا الظلم شيء ؟ ؟ !
وهل أعظم ظلما ممن خلقه اللّه لعبادته وتوحيده ، فذهب بنفسه الشريفة ، [ فجعلها في أخس المراتب ]{[667]} جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئا ، فظلم نفسه ظلما كبيرا .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله لقمان لابنه على سبيل النصيحة والإِرشاد فقال - تعالى - { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .
وقوله { يَعِظُهُ } من الوعظ ، وهو الزجر المقترن بالتخويف . وقيل : هو التذكير بوجوه الخير بأسلوب يرق له القلب .
قالوا : واسم ابنه " ثاران " أو " مانان " أى : واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتنتفع ، وقت أن قال لقمان لابنه وهو يعظه ، ويرشده إلى وجوه الخير بألطف عبارة ، يا نبى { لاَ تُشْرِكْ بالله } - تعالى - لا فى عبادتك ولا فى قولك ، ولا فى عملك ، بل أخلص كل ذلك لخالقكم - عز وجل - .
وفى ندائه بلفظ { يابني } إشفاق عليه . ومحبة له ، فالمراد بالتصغير إظهار الحنو عليه ، والحرص على منفعته .
قيل : وكان ابنه كافرا فما زال يعظه حتى أسلم . وقيل : بل كان مسلما ، والنهى عن الشرك المقصود به ، المدوامة على ما هو عليه من إيمان وطاعة لله رب العالمين .
وجملة { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } تعليل للنهى . أى : يا بنى حذار أن تشرك بالله فى قولك أو فعلك ، إن الشرك بالله - تعالى - لظلم عظيم ، لأنه وضع للأمور فى غير موضعها الصحيح ، وتسوية فى العبادة بين الخالق والمخلوق .
ثم تجيء قضية التوحيد في صورة موعظة من لقمان الحكيم لابنه :
( وإذ قال لقمان لابنه - وهو يعظه - : يا بني لا تشرك بالله . إن الشرك لظلم عظيم ) . .
وإنها لعظة غير متهمة ؛ فما يريد الوالد لولده إلا الخير ؛ وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا . وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك ؛ ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلم عظيم . ويؤكد هذه الحقيقة مرتين . مرة بتقديم النهي وفصل علته . و مرة بإن واللام . . وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] على قومه ، فيجادلونه فيها ؛ ويشكون في غرضه من وراء عرضها ؛ ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم ! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها ? والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة ، بعيدة من كل ظنة ? ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة من الناس ؛ يراد بها الخير المحض ، ولا يراد بها سواه . . وهذا هو المؤثر النفسي المقصود .
يقول تعالى مخبرًا عن وصية لقمان لولده - وهو : لقمان بن عنقاء بن سدون . واسم ابنه : ثاران في قول حكاه السهيلي . وقد ذكره [ الله ]{[22948]} تعالى بأحسن الذكر ، فإنه آتاه الحكمة ، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه ، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف ؛ ولهذا أوصاه أولا بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا ، ثم قال محذرًا له : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } أي : هو أعظم الظلم .
قال البخاري حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة{[22949]} ، عن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [ الأنعام : 82 ] ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : أينا لم يَلْبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس بذاك ، ألا{[22950]} تسمع إلى قول لقمان : { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .
ورواه مسلم من حديث الأعمش ، به{[22951]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَبُنَيّ لاَ تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد إذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيّ لا تُشْرِكْ باللّهِ ، إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ يقول : لخطأ من القول عظيم .
وقوله { وإذ قال } يحتمل أن يكون التقدير واذكر إذ قال ، ويحتمل أن يكون التقدير «وآتيناه الحكمة إذ قال » واختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه واسم ابنه ثاران{[9357]} ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يا بنيِّ » بالشد والكسر في الياء في الثلاثة على إدغام إحدى الياءين في الأخرى ، وقرأ حفص والمفضل عن عاصم «يا بنيَّ » بالشد والفتح في الثلاثة على قولك يا بنيا ويا غلاما ، وقرأ ابن أبي برة عن ابن كثير «يا بنيْ » بسكون الياء ، و { يا بني إنها } [ لقمان : 16 ] بالكسر ، و { يا بنيَّ أقم الصلاة } [ لقمان : 17 ] بفتح الياء ، وروى عنه قنبل بالسكون في الأولى والثالثة وبكسر الوسطى وظاهر قوله { إن الشرك لظلم عظيم } أنه من كلام لقمان ، ويحتمل أن يكون خبراً من الله تعالى منقطعاً من كلام لقمان متصلاً به في تأكيد المعنى ، ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [ الأنعام : 82 ] أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يظلم ، فأنزل الله تعالى { إن الشرك لظلم عظيم } فسكن إشفاقهم{[9358]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون ذلك خبراً من الله تعالى ، وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد .