قوله تعالى : { وحناناً من لدنا } ، رحمة من عندنا ، قال الحطيئة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه شعرا :
تحنن عليّ هداك المليك*** فإن لكل مقام مقالاً
أي : ترحم . { وزكاة } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص . وقال قتادة رضي الله عنه : هي العمل الصالح ، وهو قول الضحاك . ومعنى الآية : وآتيناه رحمة من عندنا وتحنناً على العباد ، ليدعوهم إلى طاعة ربهم ويعمل عملاً صالحاً في الإخلاص . وقال الكلبي : يعني صدقة تصدق الله بها على أبويه . { وكان تقياً } ، مسلماً ومخلصاً مطيعاً ، وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا هم بها .
{ و ْ } آتيناه أيضا { حَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ْ } أي : رحمة ورأفة ، تيسرت بها أموره ، وصلحت بها أحواله ، واستقامت بها أفعاله .
{ وَزَكَاةً ْ } أي : طهارة من الآفات والذنوب ، فطهر قلبه وتزكى عقله ، وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة ، والأخلاق الرديئة ، وزيادة الأخلاق الحسنة ، والأوصاف المحمودة ، ولهذا قال : { وَكَانَ تَقِيًّا ْ } أي : فاعلا للمأمور ، تاركا للمحظور ، ومن كان مؤمنا تقيا كان لله وليا ، وكان من أهل الجنة التي أعدت للمتقين ، وحصل له من الثواب الدنيوي والأخروي ، ما رتبه الله على التقوى .
وقوله - تعالى - : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً } معطوف على { الحكم } .
أى : وأعطيناه الحكم صبياً ، وأعطيناه حنانا . . .
قال القرطبى ما ملخصه : " الحنان ، الشفقة والرحمة والمحبة ، وهو فعل من أفعال النفس . . .
وأصله : من حنان الناقة على ولدها . . . قال طرفة :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا . . . حنانيك بعض الشر أهون من بعض
والمعنى : منحنا { يايحيى } الحكم صبيا ، ومنحناه من عندنا وحدنا رحمة عظيمة عليه ، ورحمة فى قلبه جعلته يعطف على غيره ، وأعطيناه كذلك زكاة أى : طهارة فى النفس ، أبعدته عن ارتكاب ما نهى الله عنه ، وجعلته سباقاً لفعل الخير { وَكَانَ تَقِيّاً } أى مطيعاً لنا فى كل ما نأمره به ، أو ننهاه عنه .
وآتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه ؛ إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به . والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس ، وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق .
وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع ؛ يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس ، فيطهرها ويزكيها .
( وكان تقيا )موصولا بالله ، متحرجا معه ، مراقبا له ، يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه .
وقوله : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } يقول : ورحمة من عندنا ، وكذا قال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك وزاد : لا يقدر عليها غيرنا . وزاد قتادة : رُحِم بها زكريا .
وقال مجاهد : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } وتعطفًا من ربه عليه .
وقال عكرمة : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } [ قال : محبة عليه . وقال ابن زيد : أما الحنان فالمحبة . وقال عطاء بن أبي رباح : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ]{[18702]} ، قال : تعظيمًا من لدنا{[18703]} .
وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال : لا والله ما أدري{[18704]} ما حنانًا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور : سألت سعيد بن جبير عن قوله : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ، فقال : سألت عنها عباس ، فلم يحر{[18705]} فيها شيئًا .
والظاهر من هذا السياق أن : { وَحَنَانًا [ مِنْ لَدُنَّا ] }{[18706]} معطوف على قوله : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي : وآتيناه الحكم وحنانا ، { وَزَكَاةً } أي : وجعلناه ذا حنان وزكاة ، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب : حنّت الناقة على ولدها ، وحنت المرأة على زوجها . ومنه سميت المرأة " حَنَّة " من الحَنَّة ، وحن الرجل إلى وطنه ، ومنه التعطف والرحمة ، كما قال الشاعر{[18707]}
تَحنَّنْ{[18708]} عَلَي هَدَاكَ المليكُ *** فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا
وفي المسند للإمام أحمد ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أن{[18709]} رسول الله صلى الله عليه قال : " يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان " {[18710]}
وقد يُثنَّي{[18711]} ومنهم من يجعل ما ورد من{[18712]} ذلك لغة بذاتها ، كما قال طرفة :
أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا *** حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض{[18713]}
وقوله : { وَزَكَاةً } معطوف على { وَحَنَانًا } فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب .
وقال قتادة : الزكاة{[18714]} العمل الصالح .
وقال الضحاك وابن جريج : العمل الصالح الزكي .
وقال العوفي عن ابن عباس : { وَزَكَاةً } [ قال : بركة ]{[18715]} { وَكَانَ تَقِيًّا } طهر ، فلم يعمل بذنب .
وقوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول تعالى ذكره : ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيا .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان ، فقال بعضهم : معناه : الرحمة ، ووجهوا الكلام إلى نحو المعنى الذي وجهناه إليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول : ورحمة من عندنا .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، في هذه الاَية وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : رحمة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : رحمة من عندنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : رحمة من عندنا لا يملك عطاءها أحد غيرنا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول : رحمة من عندنا ، لا يقدر على أن يعطيها أحد غيرنا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ورحمة من عندنا لزكريا ، آتيناه الحكم صبيا ، وفعلنا به الذي فعلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول : رحمة من عندنا .
وقال آخرون : معنى ذلك : وتعطفا من عندنا عليه ، فعلنا ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : تعطفا من ربه عليه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : بل معنى الحنان : المحبة . ووجهوا معنى الكلام إلى : ومحبة من عندنا فعلنا ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عكرمة وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : محبة عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَحَنانا قال : أما الحَنان فالمحبة .
وقال آخرون معناه تعظيما منا له . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عطاء بن أبي رباح وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : تعظيما من لدنا . وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا أدري ما الحنان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : والله ما أدري ما حنانا .
وللعرب في حَنَانَك لغتان : حَنَانَك يا ربنا ، وحَنانَيك كما قال طَرَفة بن العبد في حنانيك :
أبا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا *** حَنانَيْكَ بعضُ الشّرّ أهْوَنُ مِن بعض
وقال امرؤ القيس في اللغة الأخرى :
ويَمْنَحُها بَنُو شَمَجَي بْنِ جَرْمٍ *** مَعِيزَهُمُ حَنانَكَ ذَا الحَنانِ
وقد اختلف أهل العربية في «حنانيك » فقال بعضهم : هو تثنية «حنان » . وقال آخرون : بل هي لغة ليست بتثنية قالوا : وذلك كقولهم : حَوَاليك وكما قال الشاعر :
*** ضَرْبا هَذَا ذَيْكَ وطَعْنا وَخْضا ***
وقد سوّي بين جميع ذلك الذين قالوا حنانيك تثنية ، في أن كل ذلك تثنية . وأصل ذلك أعني الحنان ، من قول القائل : حنّ فلان إلى كذا ، وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق ، ثم يقال : تحّننَ فلان على فلان ، إذا وصف بالتعطّف عليه والرقة به ، والرحمة له ، كما قال الشاعر :
تَحَنّنْ عَليّ هَدَاكَ المَلِيكُ *** فإنّ لِكُلّ مَقامٍ مَقالا
بمعنى : تعطّف عليّ . فالحنان : مصدر من قول القائل : حنّ فلان على فلان ، يقال منه : حننت عليه ، فأنا أحنّ عليه حنينا وحنانا ، ومن ذلك قيل لزوجة الرجل : حَنّته ، لتحننه عليها وتعطفه ، كما قال الراجز :
وَلَيْلَةٍ ذَاتِ دُجىً سَرَيْتُ *** ولَم تَضِرْنِي حَنّةٌ وَبَيْتُ
وقوله : وَزَكَاةً يقول تعالى ذكره : وآتينا يحيى الحكم صبيا ، وزكاة : وهو الطهارة من الذنوب ، واستعمال بدنه في طاعة ربه ، فالزكاة عطف على الحكم من قوله : وآتَيْناهُ الحُكْمَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وزَكاةً قال : الزكاة : العمل الصالح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وزَكاةً قال : العمل الصالح الزكيّ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله وزَكاةً يعني العمل الصالح الزاكيّ .
وقوله : وكانَ تَقِيّا يقول تعالى ذكره : وكان لله خائفا مؤدّيا فرائضه ، مجتنبا محارمه مسارعا في طاعته . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَزَكاةً وكانَ تَقِيّا قال : طهر فلم يعمل بذنب .
حدثني يونس ، قال : خبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَزَكاةً وكانَ تَقِيّا قال : أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس .
الحَنان : الشفقة . ومن صفات الله تعالى الحنان . ومن كلام العرب : حنانيك ، أي حناناً منك بعد حنان . وجُعل حنان يحيى من لَدن الله إشارة إلى أنه متجاوز المعتاد بين الناس .
والزكاة : زكاة النفس ونقاؤها من الخبائث ، كما في قوله تعالى : { فقل هل لك إلى أن تزكى } [ النازعات : 18 ] أو أُريد بها البركة .
وتقي : فعيل بمعنى مُفعل ، من اتّقى إذا اتّصف بالتقوى ، وهي تجنب ما يخالف الدّين . وجيء في وصفه بالتقوى بفعل { كَانَ تَقِيّاً } للدلالة على تمكنه من الوصف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَحَنانا مِنْ لَدُنّا" يقول تعالى ذكره: ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيا.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان؛
فقال بعضهم: معناه: الرحمة، ووجهوا الكلام إلى نحو المعنى الذي وجهناه إليه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ورحمة من عندنا لزكريا، آتيناه الحكم صبيا، وفعلنا به الذي فعلنا...
وقال آخرون: معنى ذلك: وتعطفا من عندنا عليه، فعلنا ذلك...
وقال آخرون: بل معنى الحنان: المحبة. ووجهوا معنى الكلام إلى: ومحبة من عندنا فعلنا ذلك...
وقال آخرون معناه: تعظيما منا له...
وأصل ذلك أعني الحنان، من قول القائل: حنّ فلان إلى كذا، وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق، ثم يقال: تحّننَ فلان على فلان، إذا وصف بالتعطّف عليه والرقة به، والرحمة له...
وقوله: "وَزَكَاةً "يقول تعالى ذكره: وآتينا يحيى الحكم صبيا، وزكاة: وهو الطهارة من الذنوب، واستعمال بدنه في طاعة ربه، فالزكاة عطف على الحكم من قوله: "وآتَيْناهُ الحُكْمَ"... عن ابن جريج، قوله: وزَكاةً قال: العمل الصالح الزكيّ...
وقوله: "وكانَ تَقِيّا" يقول تعالى ذكره: وكان لله خائفا مؤدّيا فرائضه، مجتنبا محارمه مسارعا في طاعته... عن ابن عباس "وَزَكاةً وكانَ تَقِيّا" قال: طهر فلم يعمل بذنب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وجائز أن تكون الزكاة اسم كل خير وبركة، وهو كالبر والتقوى. كأنه قال: أعطيناه كل بر وخير...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَكَانَ تَقِيّاً}: مسلماً مخلصاً مطيعاً.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... زكيناه بحسن الثناء كما يزكي الشهود إنساناً.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي آتيناه رحمةً من عندنا، وطهارةً وتوفيقاً لمجلوبات التقوى وتحقيقاً لموهوباتها؛ فإن التقوى على قسمين: مجموع ومجلوب يتوصَّلُ إليه العبدُ بِتَكَلُّفِه وتَعَلُّمِه، وموضوعٍ من الله تعالى وموهوبٍ منه يصلُ إليه العبدُ بِبَذْله سبحانه وبفضله...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وكان تقيا). وصفه بالتقوى؛ لأنه لم يذنب، ولم يهم بذنب..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والحنان: الرحمة والشفقة والمحبة، قاله جمهور المفسرين، وهو تفسير اللغة. وهو فعل من أفعال النفس... والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى، ومن قول زيد بن عمرو بن نفيل في خبر بلال بن رباح «والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حناناً»...
وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبدالله بن عمرو عن النبي عليه السلام أنه قال «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء» وقال قتادة: إن يحيى عليه السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا بكبيرة...
{وحنانا من لدنا} أي إنما آتيناه الحكم صبيا حنانا من لدنا عليه، أي رحمة عليه وزكاة أي وتزكية له وتشريفا له.
الثاني: أن يكون الحنان من الله تعالى لزكريا عليه السلام فكأنه تعالى قال: إنما استجبنا لزكريا دعوته بأن أعطيناه ولدا ثم آتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا عليه أي على زكريا فعلنا ذلك. {وزكاة} أي وتزكية له عن أن يصير مردود الدعاء. والثالث: أن يكون الحنان من الله تعالى لأمة يحيى عليه السلام كأنه تعالى قال: {واتيناه الحكم صبيا وحنانا} منا على أمته لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده.
أما إذا جعلناه صفة ليحيى عليه السلام ففيه وجوه؛
الأول: آتيناه الحكم والحنان على عبادنا أي التعطف عليهم وحسن النظر على كافتهم فيما أوليه من الحكم عليهم كما وصف نبيه فقال: {فبما رحمة من الله لنت لهم} وقال: {حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} ثم أخبر تعالى أنه آتاه زكاة، ومعناه أن لا تكون شفقته داعية له إلى الإخلال بالواجب لأن الرأفة واللين ربما أورثا ترك الواجب ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} وقال: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} وقال: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} فالمعنى إنما جعلنا له التعطف على عباد الله مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات، ويحتمل آتيناه التعطف على الخلق والطهارة عن المعاصي فلم يعص ولم يهم بمعصية، وفي الآية وجه آخر وهو المنقول عن عطاء بن أبي رباح: {وحنانا من لدنا} والمعنى آتيناه الحكم صبيا تعظيما إذ جعلناه نبيا وهو صبي ولا تعظيم أكثر من هذا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{و} آتيناه {حناناً} أي رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة {من لدنا} من مستقرب المستغرب من عظمتنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة {وزكاة} أي طهارة في نيته تفيض على أفعاله وأقواله {وكان} أي جبلة وطبعاً {تقياً} خوافاً لله تعالى.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
... أي وآتيناه رحمة عظيمة عليه كائنة من جنابنا وهذا أبلغ من ورحمنا. وقيل: المراد وآتيناه رحمة في قلبه وشفقة على أبويه وغيرهما، وفائدة الوصف على هذا الإشارة إلى أن ذلك كان مرضياً لله عز وجل فإن من الرحمة والشفقة ما هو غير مقبول كالذي يؤدي إلى ترك شيء من حقوق الله سبحانه كالحدود مثلاً أو الإشارة إلى أن تلك الرحمة زائدة على ما في جبلة غيره عليه السلام لأن ما يهبه العظيم عظيم. وأورد على هذا أن الإفراط مذموم كالتفريط وخير الأمور أوسطها. ورد بأن مقام المدح يقتضي ذلك. ورب إفراط يحمد من شخص ويذم من آخر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
آتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه؛ إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به. والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس، وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق. وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع؛ يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس، فيطهرها ويزكيها. (وكان تقيا) موصولا بالله، متحرجا معه، مراقبا له، يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وجيء في وصفه بالتقوى بفعل {كَانَ تَقِيّاً} للدلالة على تمكنه من الوصف.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد ذكر الله سبحانه ما حلاه من صفات بشرية هي صفات البشر الكامل فقال تعالى: {وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا}. ذكر الله تعالى ثلاث صفات هي صفات الكمال لإنسان يعيش في وسط مجتمع يغذيه بماله وعاطفته، ويجنب عنه السوء. الصفة الأولى: ذكرها الله تعالى بقوله: {وحنانا}، والحنان الشفقة والرأفة والرفق في معاملة الناس، والفيض عليهم من حبه، والحدب عليهم، والواو عاطفة على {وآتيناه الحكم صبيا}، فذلك بدا فيه منذ كان صبيا، وهو ما أودعه الله تعالى في فطرته، ولذا قال: {من لدنا}، أي أن الله تعالى أعطاه تلك الصفة منه لا بتربية ولا تعليم فهو مهدى حنون شفيق بمقتضى تكوينه الفطري.
والصفة الثانية: الطهارة وذكرها الله تعالى بقوله: {وزكاة}، أي طهارة، وهي طهارة إيجابية فهو طاهر في نفسه، ويفيض بطهارته على غيره، ولذا نقول: إن (زكاة) تتضمن طهارة النفس، والفيض على قومه بالصدقات، فتكون طهارة لذاته وطهارة لمجتمعه من الموبقات، فإن الزكاة طهارة للمجتمع.
والصفة الثالثة: التقوى وقد قال تعالى {وكان تقيا}، أي كانت نفسه مملوءة بالتقوى وهي خوف الله تعالى، وخوف الشر لقومه، فكان نبيا، وكان إنسانا كاملا سوى الخلق والنفس، وتحققت فيه أمنية أبيه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا ما يريده الله لعباده، في ما يعدّه لهم من مواقع الكرامة، ومنطلقات الهداية بالأسباب المألوفة أو غير المألوفة. ولم تكن معرفة يحيى للحكم هي كل ما كان يملكه هذا العبد الصالح الداعية، بل كانت شخصيته جامعة لكل صفات الكمال، {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} بما أفاضه الله عليه من روحية الحنان الإلهي الذي يغمر قلبه بالخير والرحمة، فينسكب على حياة الناس رأفةً، وعطفاً، ورحمةً، ومحبة، فلا يعنف بهم، ولا يقسو عليهم، ولا يحملهم ما لا يطيقون، في ما يحملهم من مسؤوليات، ويدعوهم إليه من قضايا، ويقودهم إليه من مواقف... ولعل هذا أقرب إلى الفهم في موقعه الرسالي الذي تلتقي فيه الرسالة بالحكم. وربما فسره بعضهم بأنه نوع عطفٍ وانجذابٍ خاصٍ إلهيّ بينه وبين ربه غير مألوف، وذلك نظراً إلى تقييد الحنان بقوله {مِّن لَّدُنَّا}، إذ إنها تستعمل في ما لا مجرى أو نظر فيه بالنسبة للأسباب الطبيعية العادية. ولكننا لا نجد في الكلمة مثل هذا الإيحاء، بل يكفي في صحة النسبة إلى الله أن يكون العمل صادراً منه بإرادته بشكل أو بآخر، وربما تكون دلالتها على جانب الرعاية منه أكثر من دلالتها على الجانب غير العادي من ذلك. والله العالم. {وَزَكَاةً} في ما يتكامل فيه من عناصر النموّ والبركة والطهارة، أو في ما يغدقه على الناس من ذلك كله. {وَكَانَ تَقِيًّا} يعيش الخوف من الله والإحساس بمراقبته، والالتزام بأوامره ونواهيه، في ما تحمله التقوى من وعي الخط الرسالي، وإصرار على تحريك الموقف ضمن ذاك الخط. وبذلك كان دوره دور القدوة التي توجه الناس بالممارسة، كما توجههم بالدعوة.